–
بدءًا من الخوارزميات التي تجعل حساباتنا على مواقع التواصل الاجتماعى قابلة للاستخدام الى تقنيات تتبع ومراقبة النوم في ساعاتنا الذكية، يبدوا بأن عالمنا لم يسبق له أن كان متقدماً أو متطوراً على مر التأريخ. هذا يجعل من السهل التخمين بأن البشر يصبحون أكثر ذكاءً مع تقدم الأجيال، ولكن ما مدى صحة هذه الفرضية؟
لطالما حاول الكثير من العلماء والباحثين سبر أغوار هذا السؤال، خصوصاً أن متوسط درجات إختبارات الذكاء بدأت ترتفع بشكل ملحوظ خلال القرن الماضي، في الدول الغربية بشكل خاص.
فقد أرتفعت درجات إختبارات الذكاء بمعدل ثلاث درجات في العقد الواحد، ما يعني بأننا نعيش بين مجموعة أكبر من العباقرة وهذا ما لم يحدث مسبقاً من قبل.
بعرف هذا الأرتفاع في درجات إختبارات الذكاء والزيادة المفترضة في مستويات الذكاء على مر العصور بتأثير فلن (Flynn Effect) نسبة الى التربوي الأمريكي جيمس فلن James Flynn. وقد ساهمت التحسينات التي طرأت على خدمات الرعاية الصحية والتغذية وتحسن ظروف التعليم والعمل، إضافة الى التطور التكنولوجي في هذه الزيادة.
وبالفعل، فقد نتج عن الثورة الصناعية التي شهدها القرن التاسع عشر إنشاء مدن كبيرة ومزدحمة والتي أدت الى تدني مستويات الصحة العامة وزيادة أعداد الوفيات المبكرة. ولكن التحسن الذي طرأ على خدمات الإسكان والصحة والعناية المنزلية، إضافة الى إزدياد معدلات الوصول الى التعليم المجاني والتحول التدريجي من الوظائف التي تتطلب بنية جسمانية الى وظائف تعتمد على المؤهلات الأكاديمية، قد أدت جميعها الى حياة أطول وصحة أفضل.
وأكثر من ذلك تفترض البحوث العلمية بأن هناك ما يسمى “إنخفاض الوفيات نتيجة أرتفاع مستويات الذكاء” والذي يفترض بأن البشر الأكثر ذكاءً عادة ما يعيشون لوقت أطول.
وحتى في البلدان التي لم تتأثر بالتنمية ما بعد الثورة الصناعية، فأن البحوث العلمية تدعم الفرضية القائلة بأن تحسن مستويات الوصول الى التعليم والسكن والتغذية الجيدة هي الأسباب الرئيسية التي أدت الى الزيادة في مستويات الذكاء. على سبيل المثال، وجدت دراسة أجريت في دول أفريقيا جنوب الصحراء بأن تأثير فلن لا يزال ليس له وجود يذكر.
أو بالأحرى أن نتائج إختبارات الذكاء لم ترتفع بشكل كبير لأن ظروف الحياة هناك لم تتحسن بشكل ملحوظ لقطاعات واسعة من السكان.
أرتفاع معدلات الذكاء؟
تستخدم إختبارات الذكاء لقياس التفكير والقدرة على إستخدام المعلومات والتفكير المنطقي بأسرع ما يمكن. تقيس هذه الاختبارات الذاكرة قصيرة وبعيدة المدى من خلال الاحجيات والألغاز واختبار قدرة الشخص على تذكر المعلومات.
ورغم أن نتائج إختبارات الذكاء في إزدياد مطرد، إلا أن البحوث العلمية تتحدث عن “تأثير فلن العكسي” والذي يفترض بأن هذا الارتفاع في تباطئ مستمر. فعلى سبيل المثال، وجدت دراسة نرويجية بأن الرجال المولودين قبل العام ١٩٧٥ قد أظهروا “تأثير فلن” الإيجابي المتوقع بزيادة قدرها ثلاث نقاط إضافية لكل العقود المتتابعة.
أما الأشخاص الذين ولدوا بعد العام ١٩٧٥ فأن هناك أنخفاض تدريجي في مستويات الذكاء. وقد يرتفع هذا الاختلاف لحوالي سبع نقاط بين الجيلين — حيث ينخفض مستوى الذكاء لحوالي 0.2 في السنة الواحدة. وقد أظهرت دراسات أخرى أجريت بين الأعوام من ٢٠٠٥ الى ٢٠١٣ في المملكة المتحدة والسويد وفرنسا، نفس النتيجة.
ومن الصعب شرح هذه النتائج، ولكن هناك فرضيات بأن هذا مرتبط بشكل أساسي بالطريقة التي يتعلم بها الأطفال في المدارس.
لقد شهد عصرنا الحالي أبتعاد كبير عن قراءة النتاجات الأدبية الهادفة والتعليم المعتمد على الحفظ وتقنيات التذكر المعتمدة على التكرار واستبدالها بمنهج علمي مبني على حل المشكلات بطريقة تعاونية، وهذا هو منهج التدريس السائد في الغرب في الوقت الحالي.
أن الأساليب التعليمية التي تجعل الطالب هو مركز عملية التعلم بدأت تدمج مع المهارات الذاتية ومهارة العمل ضمن فريق مع تشجيع الطلبة على فهم الكوامن العاطفية للآخر.
وربما يكون التأثير الكلي لمنهج كهذا هو التشجيع على أداء أكثر ذكاءً وفعالية، لكنه في نفس الوقت يعطي إهتماماً أقل للمهارات الشخصية التي تتطلبها إختبارات الذكاء. ونتيجة لذلك يمكن أن نقول بأننا لم نعد قادرين على القيام باختبارات ذكاء جيدة كما السابق.
هناك فرضية أخرى تقترح بأن سبباً آخراً لهذا التراجع يعود الى أنخفاض المعايير الغذائية. فعلى سبيل المثال فأن الكثير من الناس في المملكة المتحدة يفشلون في الحصول على غذاء مطابق للشروط الصحية.
وأضيفت فرضيات أخرى لتحديد سبب هذا التراجع ومنها الهجرة واللجوء لاولئك الذين ترعرعوا في ظروف الفقر والعوز، إضافة الى الرغبة التي يبديها غالبية الاذكياء في الاكتفاء بأقل عدد من الأبناء.
“التمييز وانعدام العدالة”
من الضروري جداً أن نأخذ بنظر الاعتبار بأن على مدى السنوات الخمسين الماضية ظهرت الكثير من التساؤلات عن مدى ملائمة هذه الاختبارات للجميع، وقد وصفت في الكثير من الأوساط بأنها غير عادلة ولا تناسب الجميع. وبالفعل فقد تلاشى إستخدام هذه الاختبارات كمطلب للحصول على الوظائف والقبول في المدارس.
ومن المحتمل بأن تراجع إستخدام هذه الاختبارات وانعدام فرص التسويق لها قد أدت الى نتائج خجولة عند أستخدامها.
وبالعودة الى السؤال الأساسي اذا ما أصبح البشر أكثر ذكاءً، فمن الصعب جداً الإجابة بنعم. ولكن المؤكد أن النتائج المتدنية لاختبارات الذكاء لا يمكن اعتبارها كعلامة على تراجع ذكاء البشر، بقدر ما هي علامة على أن البشر لم يعودوا يحصلون على نتائج أعلى في إختبارات الذكاء.
وعلى هذا الأساس، يجب أن ندرك بأن الأسباب المحتملة لهذا التراجع تتطلب فهماً معمقاً للسياقات التي ينظر بها لهذه الاختبارات، وأحد هذه الأسباب وأكثرها شيوعاً هو ان هذه الاختبارات لم يعد ينظر إليها كما السابق.
ومن المهم جداً أن نعيد التفكير بخصوص ما تقيسه إختبارات الذكاء وما لا تقيسه بالإضافة الى ماذا نقصد عندما نتحدث عن الذكاء. فعلى سبيل المثال، تفشل إختبارات الذكاء بقياس السمات الشخصية والأبداع والذكاء العاطفي والاجتماعي وحتى الحكمة.
جميع السمات التي ربما تستحق أن نعطي لها اهتماما أكبر من النتائج المرتفعة لاختبارات الذكاء.
–
ترجمة: ثناء سليمان
تدقيق وتعديل الصورة ونشر: تبارك عبد العظيم
المصدر: هنا