جان جاك روسو (1712_1778م) (ثنائية المكتوب/ الملفوظ)
احتلت طروحات روسو مكاناً مركزياً في كتابات دريدا النقدية، إذ تتجلى آثارها النفسية من خلال الثنائية الضدية (الكتابة _ الكلام) ، التي مارست صفتها الجدلية في مقولات كل منهما ، من حيث الدرس و التحليل النفسي، فقد جسد الأول مقولات الفكر الغربي الميتافيزيقي في تأصيل القول الملفوظ على حساب الكتابة ، فهو عدّ الكتابة نمو طفيلي وموضع عدم ثقة، وإنها مكمل للغة المحكية أو تابعاً لها، وعدّ القول الملفوظ أصل اللغة في شكلها التأصيلي الطبيعي وأساس ميتافيزيقيا الحضور(1).
وفي المضمار نفسه نعت روسو الكتابة بالتكملة (2) أي بمعنى الملحق أو الإضافة الخطرة وإن سبب ذلك يعود إلى أن النطق أو القول الملفوظ يمثل الحالة الطبيعية الأولى في أبسط تشكلاتها التي تسبق الكتابة زمانياً ومكانياً، فهي تتسم بالحضور (أي حضور _ المتكلم والمخاطب والمعنى) ولعلّ ظهور الثقافة بوصفها نداً للطبيعة ومميزاتها ساهم في انبثاق الثنائية العدائية بين (الطبيعة / الثقافة)، ثم ظهرت الكتابة كنقيض للقول الملفوظ لتؤكد حالة الغياب : أي غياب المتكلم و المخاطب و بعد المعنى المستقر في وعي المتكلم الغائب. حتى أصبحت الكتابة تبعية في تمثيلها للنطق أو نائبة عنه في حالة غيابه على وفق ذلك عدّها روسو إضافة ثانوية على حالة الطبيعة بل تهدد حضورها (3) .
إذ ينطلق دريدا في تحليله النفسي للنطق من تعريف روسو الذي يصف الحضور بالمتعة وإن ما يبدد ذلك الحضور هو فعلي الإرجاء والتأجيل ، بوصفه يمد المسافة بين الرغبة واللذة ، ويشير دريدا في هذا الخصوص إلى أن ” النطق هو المكمل الخطر للفورية الخيالية والكلام الطيب : أي للمتعة الممتلئة …فالحاضر دائماً حاضر المتعة الحاضرة و المتعة دائماً استقبال الحضور(4) “.
وعلى نحو مغاير استعار دريدا مصطلح التكملة؛ ليدرجه في منظومة خطابه (النفسي _التفكيكي)، إذ سعى دريدا إلى إشباعها بمعانٍ جديدة مضادة أو جامعة للمتضادات على غير معناها في النصوص الأصلية التي وردت فيها ثم يدرجها في منظومة مفاهيمه التفكيكية (5) “.
لقد سيطر مفهوم (التكملة، الملحق، الإضافة) على طروحات روسو بوصفها الإضافة الخارجية التي كانت موجودة منذ البداية فهي شرط أساسي للتكملة حسب تعبيره لذلك فإن روسو يقرن الكتابة بأية إضافة تتصف بالشذوذ ، لأنها حالة من التعويض لما هو اعتيادي _ أولي، إلا أن دريدا يذهب إلى العكس من ذلك حين يصف منطق التكملة بأنه يمتلك القوة والعقل وسعة الانتشار في أشد السياقات اختلافاً ويترك أثره حتى يجعل كل شيء ممكناً في حدود الإنسانية: اللغة، العاطفة، الفن ؛ لذلك فإن منطق التكملة يتعامل مع الأشياء التي تتصف بالهامشية بالنسبة للآخر المكتمل فالكتابة التي عدها روسو هامشية بالنسبة للكلام هي في الواقع عند دريدا تمثل الشرط المكون للغة ذاتها لأن صفات الهامشي هي في الواقع مجموعة الصفات التي تحدد هوية الموضوع المركزي وبمعنى آخر فإن عملية الاكتمال المرجوة تقترن بحالة الاختلاف التي تعمل على تجزئة الاكتمال أو تؤجله(6).
ومن هذا المنظور خالف دريدا في قراءته (النقدية_ الفلسفية) لفكر روسو ، وخصوصاً تأكيده لأسبقية الصوت على الكلمة المكتوبة وتفضيله الحوار المباشر على التأمل من خلال تقابل مفهومي الحضور والمسافة : ” أي حضور الذات المباشرة أمام صوتها المسافة التأملية بين الذات و الكلمة المكتوبة(7) “يرى دريدا في هذا الخصوص إن ” الكتابة هي المكمل بامتياز، وذلك لأنها تحدد النقطة التي يظهر عندها المكمل بوصفه مكملاً للمكمل وعلامة على العلامة ، إذ تحل الكتابة محل كلمة دالة أصلاً (8) ” ما يبرر أهمية الكتابة من الجانب النفسي وتفضيلها على الكلام لدى دريدا هو أن ” للكتابة وظيفة الوصول إلى ذوات فاعلة ليست فقط بعيدة ولكنها أيضاً ذوات بمنأى عن أي مرمى للبصر أو أي مدى للصوت(9) ”
تحرير : آلاء دياب
المصادر والمراجع
- انظر: كريستوفر نورس، التفكيكية النظرية والتطبيق، ترجمة رعد عبد الجليل ، الطبعة الأولى ، دار الحوار للنشر والتوزيع ، اللاذقية ، 2008م، ص39_43.
- يستخدم روسو مفردة الاستمناء للإشارة إلى دور الكتابة بوصفها تكملة خطيرة ، أي إنها إضافة تتصف بالشذوذ للحياة الجنسية الطبيعية ، ويتضح بالفعل إنما يتصف به الإستمناء هو التركيز على هدف جنسي متخيل و استحالة الحصول على هدف الرغبة يصبح أيضاً على الحياة الجنسية المعتادة التي توصف لحظتها بشكل يجعلها تصبح صيغة من استمناء عام . انظر: جون ستروك ، البنيوية و ما بعدها ، ترجمة محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة 206، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1996م، ، ص223.
- ميجان الرويلي وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، الطبعة الثالثة ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2002م، ص70.
- جاك دريدا ، في علم الكتابة ، ترجمة وتقديم أنور مغيث و منى طلبة ، الطبعة الثانية ، المركز القومي للترجمة ، القاهرة ، 2008م ، ص515_516.
- المرجع السابق، ص14
- جوناثان كالر، النظرية الأدبية، ص223.
- بول دي مان ، العمى والبصيرة ، ترجمة سعيد الغانمي ، الطبعة الأولى، المجمع الثقافي ، أبو ظبي ، 1995م، ص185_186 .
- جاك دريدا ، في علم الكتابة، ص516.