جون لوك (1632_1704م) _ (الابستمولوجيّا التجريبية)
تبنى لوك المذهب الترابطي في تحديد موقفه من عملية تداعي المعاني في الوقت الذي عارض فيه دور الاستعدادات الفطرية التي يولد الفرد مزوداً بها، إذ أن كل معرفة تتصف بأنها مكسوبة لا موهوبة يتزود بها الإنسان أبان حياته اليومية ، فهو يرى بأن ” الأحاسيس بتداخلها وأعمالها هي المشكّلة للأفكار المجردة لدى الإنسان بل العمليات الروحية ذاتها مرتكزة على ملكة قوة التلقي وأحداث الانطباعات والتأثيرات (1)”ولعل ما يدعم هذا التوجه هو تبنيه للفكرة القائلة بأن العقل الإنساني لوح أبيض ، خال من الكتابة تنقش عليه الخبرة الحسية ما تريد (2)؛ لذلك شكلت عملية رفضه لفكرة فطرية المعرفة قاعدة عامة ،انطلق منها لتقويض الاتجاهات المثالية والعقلية القديمة والركون إلى الاتجاهات التجريبية والحسية لبلورة نظريته في أصل المعرفة الإنسانية بوصفها سابقة على التفكير(3) ، ومن هنا اقترنت طروحات لوك النفسية حيال موضوع تقصيه لحقيقة المعرفة الإنسانية بمفهوم (الكتابة) لدى دريدا، بعد نفيه لأن تكون في الذهن أية معرفة فطرية سابقة على الإحساس، إذ يراها الأخير بأنها ” ليست وعاء لشحن وحدات معدّة سلفاً، وإنما هي صيغة لإنتاج هذه الوحدات اللغوية داخل نسق جديد وهي عملية ابتكار وإعادة صوغ الوجود (4)” . ذلك أن التجربة الحسية وفعل الكتابة يتخذان مديات أوسع في تحقيق تعددية المعنى وانشطاره.
لذلك عوّل لوك على فعل التجربة الحسية وما يتضمنه من اختلافات مرجأة للمعنى على نحوٍ يحقق التعددية المتواصلة لاكتشاف أكثر عددٍ ممكن من المعاني، والحال إن الإحساسات في بدايتها تتصف بعدم الترابط أو الانتظام عند استقبالها من قبل العقل فهي تنتظم فيما بعد بحسب علاقات الاختلاف أو التجاور في الزمان والمكان، وفي ضوء تلك العلاقات تنشأ العمليات العقلية جميعاً مثل : الإدراك، والتصور، والتفكير، والتخيل، والتقليد، والابتكار(5). وتتميز عملية الترابط هذه ” بأنها آلية ميكانيكية تشبه الجاذبية في العالم المادي أو التآلف بين الذرات بعضها لبعض ، وبين العناصر و بعضها البعض،…إذ أن تحليل المركبات العلية الشعورية تحيلنا إلى عناصرها من إحساسات و صور ذهنية و معان (6)“.
لعل ما يشير إلى التفكيكية في الخطاب النفسي لدى لوك هو أن الفحص الدقيق لحياة الإنسان يشير إلى تباين الأدوار التي يمر بها إذ أنها تفرز تجارب متعددة تحفظها الذاكرة الخاصة بكل موقف، فكل إنسان فينا يكون حاملاً لهذا التعدد والاختلاف، وتعيش هذه الأدوار أو المراحل في تجربة الفرد المعاشة، إذ تؤدي الذاكرة دورها الكبير في المحافظة على طبيعة الهوية المتحولة وإظهارها في الموقف المختلفة بحسب متطلبات كل موقف وآنيته (7) .
والحال إن رفض التفكيكيون لمقولة وجود المعنى وحضوره المباشر في العقل التي كرستها المركزية الغربية و الاتجاه نحو إرجائه تبعاً لفعل الذات ، قرب الحدود مع ما ذهب إليه (لوك) في تأكيده لفكرة الذاتية التي يعدّها ” مبدءاً أساسياً تعتمد عليه جميع العمليات العقلية بل هي أول عملية يقوم بهال العقل حالما يصبح مزوداً بأي إحساسات أو أفكار (8) “. ولقد أشار لوك إلى هذا المنحى من خلال تأكيده على أهمية بعض المفاهيم مثل التجربة والتركيب والاختلاف في الأفكار لاستنتاج أفكار أخرى جديدة فهي ضرورة لتطور المعرفة الإنسانية، فهو تبنى عملية تجريد المعنى وذلك بتجريد المعاني والأفكار الجزئية من كل ما يجعلها ترتبط بموضوع معين دال عليها أو كونها ترمز إلى شيء معين بحيث تصبح شاملة في دلالتها لأكثر من مدرك حسي في نفس الوقت و ذلك عن طريق فصلها عن كل ما ترمز إليه من الموضوعات الحسية و كل ما يرتبط أو يحيط بهذه الموضوعات من علاقات زمانية أو مكانية (9) .
تحرير: آلاء دياب
المصادر والمراجع:
- علي مي زيعور ، مذاهب علم النفس المعاصر، الطبعة الأولى، دار الأندلس، بيروت ، 1971، ص 51_52.
(2) Diane E.Papalia & Sally Wendkos Olds ,Psychology,Second Ed, University Of Pennsylvania,Mc Graw-Hill Book Company,1988,P.8
(3) فاروق عبد المعطي ، جون لوك ، الطبعة الأولى ، دار الكتب العلمية ، بيروت ،1993م، ص51.
(4) بسام قطوس، إستراتيجية القراءة _التأصيل والإجراء النقدي ، الطبعة الأولى ، دار الكندي ، إربد ، 1998م، ص28.
(5) عبد الرحمن الفيقي وآخرون ، علم النفس التربوي ، الطبعة الثالثة ، مطبعة دار الزمان، بغداد ، 1964م، ص17.
(6) عباس محمود عوض، علم النفس العام ، الطبعة الأولى، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية ، 1991م ، ص42 .
(7) انظر: عبد المنعم الحنفي ، موسوعة أعلام علم النفس ، الطبعة الأولى ، مكتبة مدبولي ، القاهرة، 1993م، ص318.
(8) فاروق عبد المعطي ، جون لوك ، ص51.
(9) المرجع السابق، ص133.
هذا البحث مستلٌّ من بحث (تمثلات فعل التفكيك في الخطاب النفسي) ، لـ د. أديب علوان كاظم الحبيب_ كلية الآداب ، جامعة القادسية