التناص
مفهومه وماهيته
إنّ التناص مصطلح حديث، ظهرت بذوره الأولى في منتصف الستينيات من القرن الماضي، حين استخدمته الناقدة اللسانية جوليا كريستيفا، وعرّفته بقولها: “إنه أحد مميّزات النصّ الأساسية، والتي تحيل على نصوص أخرى سابقة عنها أو معاصرة لها(1)”، فالتناص في أبسط أشكاله هو ” مجموعة من النصوص التي تتداخل في نص معطىً (2) “، ويرجع الفضل في ابتكار هذا المفهوم إلى الروسي ميخائيل باختين الذي” قارب مفهوم التناص ولكن بمصطلحات أخرى مثل الحوارية والتعدد الصوتي(3) ” ، إذ يرى باختين أنه لا وجود للإبداع المحض، ومن هنا فالنصّ المتناصّ هو النصّ، الذي يقبل التماهي مع نصوص أخرى قديمة أو معاصرة، لأنَّه أشبه بلوح من زجاج، يوحي بنصّ آخر أو يلوح من خلفه نصّ آخر.
بعد كريستيفا جاء الناقد رولان بارت فجعل من التناص آلية تشمل كل نص(4) ، وبهذا ألغى رولان بارت أبوة النص ، وقتل مفهوم المبدع الأوحد ، حين انتقل بعملية إنتاج المعنى من المؤلف إلى القارئ، فجعل تأويل النصوص متعدداً بتعدّد القراء. أمّا جيرار جنيت فقد أشار إلى وجود خمسة أنماط من علاقات التعددية النصية(5) . بالانتقال إلى زاوية أخرى تمّ تناول التناص من خلالها نجد نظرية ( قلق التأثر) التي وضعها هارولد بلوم والتي يذهب فيها إلى أن التناص يحدث بين نص لاحق وسابق ؛ لأنّ مؤلف النص اللاحق يعاني من القلق كلّما مرّ على نص من نصوص أسلافه الأولين ، إذ يظهر السابقون له بمنزلة (الأب) و نصوصهم هي (الأم) ، والمؤلف الحالي يعاني من (عقدة أوديب) أمام هذا الأب/المؤلف السابق ، لامتلاك نصّه (الأم)، كما يزيد من حالة القلق هذه محاولته فرض نفسه من خلال تجاوز نصوص المؤلف/ الأب ، ويرى بلوم أنّ القصيدة الجديدة ما هي إلا نتيجة قراءة خاطئة قام بها الشاعر الجديد لنصوص أسلافه(6)
والذي يجب الإشارة إليه أن مفهوم التناصّ يختلف عن مفهوم “التداخل النصّيّ، “بالمعنى الدقيق والكلاسيكي للكلمة منذ تعريف جوليا كريستيفا، والذي يقصد به التواجد اللغّويّ (سواء كان نسبياً أم كاملاً أم ناقصاً) لنصّ في نصّ آخر (7) “، أمَّا مفهوم التداخل النصّيّ “فيتمثل في “معرفة كل ما يجعل النص في علاقة خفية أو جلية، مع غيره من النصوص(8)”. حيث يتضمن المصطلح الثاني المصطلح الأول في عمقه وأبعاده. ومن هنا فالتناصّ امتداد وارتداد “استحضار” في آنٍ معاً، لأنَّ المبدع لا يتمّ له النضج الحقّ إلا باستيعاب ما سبقه في مجالات الإبداع المختلفة، وتوظيفها بما يخدم وحدات النصّ المتعالية من رؤى وأفكار جديدة، وهذا ما يؤكدّه أحمد مجاهد في قوله: “كل ما يكتب من نصوص، له شفرات وأصول قديمة، بعضها يدرك، وبعضها شفرات منسية “أصول منطمسة” لا ندركها، وإن كنا لا نستطيع أن ننفي وجودها(9)”.
ومما لا شكّ فيه أنّ التناصّ يوسّع من فضاء القصيدة، ويرفدها بطاقة إيحائية ودلالية جديدة، لذلك “فإن إنتاج التناصّات لا يتمّ إلا من خلال تقاطعها مع الذات، التي يعاد عبر سيرورتها، إعادة إنتاج هذه التناصّات، وإعطاؤها دلالات جديدة، نابعة من الوضع السوسيو/ ثقافي لمؤلّف النصّ(10)”.
ومن هنا يجب على القارئ، كما يقول ريفاتير: “أن يعي بأن النص [الشعريّ] يحيل دوماً إلى شيْ قيل بطريقة أخرى في موضع آخر، أي هي التجربة المستمرة للفّ لفظّي(11)” وبمعنى أدق: إن كلّ نصّ رحم لنصّ آخر في عملية الخلق الشعريّ، لأنّ كلّ قصيدة لدى الشاعر انفتاح جديد لانفتاح وامتداد قديم، وفق رؤية الشاعر واستثماره لطاقته الثقافية المخزونة، التي تسهم في إغناء النصّ، وشحنه بدفق إيحائيّ ودلاليّ عميق. وهذا ما نستشفّه أيضاً من قول ريفاتير: “ليست القصيدة موضوع قراءات تقدّمية واسترجاعية لنصّها فحسب، بل هي أيضاً نسق قادر على إرجاع قابل للتوسيع، ولكنّه يظلّ إرجاعاً إلى كلمات يراقبه التناصّ (12)”.
وهكذا تتعدّد مصادر التناصّ وتتباين فيما بينها، تبعاً لمخزون الشاعر المبدع، وتوظيفه لأحد العناصر التراثية داخل بنية النصّ، وهذا ما أكدّه تودوروف (13).
ومن هنا فإن التناصّ يتعايش مع الشعر ويمنحه ثوباً جديداً، وينمّي فاعليته التواصلية، وهذا ما أشار إليه الدكتور عبد الله الغذامي (14). فالقصيدة تتحوّل بالتناصّ من تجربة محدّدة، إلى عمل فنّيّ متكامل، يشمل الرؤية الشاملة للوجود (15).
والجدير بالذكر أن التناصّ لا يكون بالمضمون فقط، وإنما يكون بالمفردات، والتراكيب، والبناء “الهيكل العام”، والإيقاع، والصورة، والرمز… الخ. وقد أشار ريفاتير إلى نوع هام من التناصّ يدعى “التناصّ الضمنيّ” إذ يقول: “والتناصّ الضمنيّ يتأثّر كثيراً بمرور الزمن، وبالتغيّر الثقافي، أو بعد اطلاع القارئ على المجموعة الكاملة من كتابات النخبة، التي تربّى عليها جيلٌ شعريّ خاص. لكن سيطرة النصّ على القارئ لا تتقلصّ حتّى عندما يكون المتناصّ معه قد طُمِسَ(16)”. وهو بذلك يشير إلى ناحية بغاية الأهمية هي أن النصّ المتناصّ له قدرة إيحائية، تمكّنه من السيطرة على القارئ حتّى عندما تطمس معالم النصّ المتناصّ معه (17).
يعدّ الـتّناص من أبرز بنيات الشعر الحداثيّ، ومن أدقّ خصائص بنيته التركيبيّة والدلاليّة، حيث يمثّل التّناصّ استحضار نصوص غائبة سابقة في النّصّ الحاضر لوظيفة معنويّة أو فنّيّة أو أسلوبيّة.
وتعترض محاولات استحضار تلك النصوص في القصيدة العربيّة المعاصرة صعوبات جمّة، من حيث الإحاطة الشموليّة لكلّ ملامح ووجوه هذه النصوص، والكشف عن تداخلاتها الخفيّة والظاهرة مع هذه القصيدة، سواء أكانت تلك التداخلات تمثّل مصادر قديمة أم حديثة سابقة، لا سيّما أنّ القصيدة الحداثيّة تتميّز بعمق مكوّناتها المعرفيّة المتشابكة، وإصرارها على توظيف الثقافة في نسيجها الشعريّ بما يخدم في النهاية الرؤية الشعريّة.
إنّ صفاء النصوص ونقاءها من التفاعلات التّناصّيّة بات أمراً نادراً في النتاجات الأدبيّة المعاصرة القائمة في معظمها على نسيج من الأصوات والأصداء والحوارات المتداخلة مع عدد من المدارات المعرفيّة المتمخّض عنها نصوص جديدة (18).
فالفعل التّناصّي يعتمد أساساً على ثقافة المبدع وتجربته الشعريّة، متجاوزة ذلك إلى ثقافة القارئ الذي يستطيع أن يعقد موازنات مع نصوص غائبة، واستحضارها في عملية القراءة كلّما سمحت ثقافته بذلك، ولكي يحقّق النصّ الاستجابة الانفعالية لدى القارئ لا بدّ أن تلتقي شفراته اللّغويّة الدلاليّة والثقافيّة مع دائرة وعيه، ومدى إدراكه لفعّاليّة هذه التداخلات النصّيّة وقيمتها النفسيّة والجماليّة، وإلاّ تاهت المعالم السياقيّة، وانغلق على الفهم، ووقع تحت وطأة الغموض والإبهام، وضاع المقصد الحقيقيّ من تداخل النصوص(19).
المصادر والمراجع
(1) علوش، سعيد، 1985 ـ معجم المصطلحات الأسلوبية المعاصرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى ، ص 215. وتجدر الإشارة إلى أن جوليا كريستيفا لم تستخدم مصطلح التناص بشكل صريح بل عبّرت عنه بحدين اصطلاحيين أقل شهرة ، هما التصحيفية و الإيديولوجيم. انظر : أنجينو ، مارك، 1989-مفهوم التناص في الخطاب النقدي الجديد ، ضمن كتاب في أصول الخطاب النقدي الجديد ، ترجمة : أحمد المديني ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، الطبعة الثانية :102
(2) بركات، وائل، 1996م – مفهومات في بنية النص (اللسانية والشعرية و الأسلوبية والتناصية) ، دار معد ، دمشق، الطبعة الأولى ،91
(3) وغليسي، يوسف،2008م- إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد ، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت ، الطبعة الأولى ، 391
(4) بقاعي، محمد خير، 1998ـ دراسات في النص و التناصية، مركز الإنماء الحضاري، حلب، الطبعة الأولى، ص 37
Allen,Graham,2000-Intertextuality,The New Critical Idiom,London nd New York ,First published,p75 (5)
(6) بلوم، هارولد ، 1998 – قلق التأثر ، ترجمة : عابد إسماعيل ، دار الكنوز الأدبية ، بيروت ، الطبعة الأولى:50-51
(7) جينيت،جيرار، 1985ـ مدخل لجامع النص، تر: عبد الرحمن أيوب، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، ص 387
(8) المرجع نفسه ص 90
(9) مجاهد، أحمد، 1998ـ أشكال التناص الشعري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، ص 387
(10) حماد، حسن محمد، 1997ـ تداخل النصوص في الرواية العربية ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1 ، ص 39
(11) ريفاتير، مايكل، دلائليات الشعر، ص 229
(12) المرجع نفسه، ص 228
(13) بقوله: “ثمّة عناصر غائبة من النصّ، وهي على قدر كبير من الحضور في الذاكرة الجماعية، لقرّاء عصر معين إلى درجة أننا نجد أنفسنا عملياً بإزاء علاقات حضورية “. انظر : تودوروف، تزفيتان، 1987م ـ الشعرية، تر: شكري المبخوت، ورجاء بن سلامة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1 ،ص30
(14) بقوله: “وعلى ذلك فإن النصّ يقوم كرابطة ثقافية، ينبثق من كلّ النصوص، ويتضمّن، مالا يحصى من النصوص، والعلاقة بينه وبين القارئ هي علاقة وجود لأنَّ تفسير القارئ للنصّ هو ما يمنح النصّ خاصيته الفنّيّة”. انظر: الغذامي، عبد الله، 1985ـ الخطيئة والتكفير “من البنيوية على التشريحية“، النادي الأدبي الثقافي، جدة ، ط1، ص 57
(15) المصدر نفسه، ص 65
(16) ريفاتير، مايكل: دلائليات الشعر، ص 227
(17) ومن هنا: “فالتناص حضورٌ نستشفّه بواسطة خبرة عميقة بالنصوص الأدبية، وهذا الحضور النصيّ يحتاج إلى فراسة تتبّع وإلى بصيرة وتبصّر فقد تندمج البنيات المتناصّة في بنية النصّ كإحدى مكوناته، ولا يدركها سوى القارئ المنفتح في قراءاته على نصوص متعددة”. انظر: عيد، رجاء، القول الشعري، ص 232
(18) المناصرة، عزّ الدين،1996 _ المثاقفة والنقد المقارن، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، ط (1)، ص (68).
(19) صرصور، عبد الجليل،2009م_ التّناصّ في الشعر الفلسطينيّ المعاصر، مجلّة جامعة الأزهر بغزّة، المجلّد (11)، العدد (2)، 2009م
تحرير: آلاء دياب