–
كانَ تفسيرُ كوبنهاغن أوَّل محاولة عامَّة لفهم عالَم الذرَّات، حيثُ تمَّ تمثيل ذلك بميكانيكا الكمّ.
كان الأب المؤسِّس بشكلٍ رئيسيّ الفيزيائيّ الدنماركي نيلز بور، ولكنَّ فيرنر هايزنبيرغ، ماكس بورن، وغيرهم من الفيزيائيين قدَّموا أيضًا مساهماتٍ مهمَّة في الفهم العام للعالَم الذرّي.
1. مقدمة:
اِكتشف ماكس بلانك عام 1900 أنَّ طيف الإشعاع للأجسام السوداء يحدث فقط مع طاقات متمايزة مفصولة بالقيمة hν، حيث ν هو التردد، وh هو ثابتٌ جديد، يُسمَّى “ثابت بلانك”.
وفقًا للفيزياء الكلاسيكية، فإنَّ شدَّة هذا الإشعاع المستمر ستتدفَّق بشكلٍ غير محدود مع التردُّدات المتزايدة، ممّا يؤدي إلى ما يُسمَّى بالكارثة فوق البنفسجية، لكنَّ اقتراح بلانك كان أنَّه إذا قامت الأجسام السوداء بتبادل الطاقة فقط مع مجال الإشعاع بنسبة مساوية لـ hν ستختفي هذه المشكلة.
إنَّ حقيقة أنَّ امتصاص وانبعاث الطاقة غير مترابطين تتعارض مع مبادئ الفيزياء الكلاسيكية.
بعد بضعِ سنوات، استخدم ألبرت أينشتاين هذا الاكتشاف في شرحهِ للتأثير الكهروضوئي، واقترح أنَّ موجات الضوء تمَّ تكميمُها، وأنَّ كميَّة الطاقة التي يمكنُ لكلِّ كميَّة من الضوء أن تُوصلها إلى إلكترونات الكاثود، كانت بالضبط hν.
جاءت الخطوة التالية في عام 1911 عندما أجرى إرنست رذرفورد بعض التجارب لإطلاق جُسيمات ألفا في رقائق الذهب، وبناءً على هذه النتائج استطاع أن يضع نموذجًا للذرَّة تكوَّنت فيه الذرَّة من نواة ثقيلة ذات شحنة موجبة مُحاطة بإلكترونات ذات شحنة سالبة مثل نظام شمسي صغير، كما كان هذا النموذج يتعارض مع قوانين الفيزياء الكلاسيكية.
وفقًا للميكانيكا الكلاسيكية والديناميكا الكهربائية، يمكنُ للمرء أن يتوقَّع أنَّ الإلكترونات التي تدور حول نواة موجبة الشحنة ستُصدر إشعاعًا باستمرار حتّى تبتلع النواة الإلكترونات بسرعة.
عندَ هذه النقطة دخل نيلز بور المشهد وسرعان ما أصبح فيزيائيًّا بارزًا في الذرَّات. في عام 1913، قدَّم بور نموذجًا رياضيًّا للذرَّة يعدُّ أول دعم نظريّ لنموذج رذرفورد، ويمكن أن يفسِّر طيف الانبعاث لذرة الهيدروجين (سلسلة Balmer). ولقد استندت النظرية إلى فرضيتين:
1- النظام الذرِّي مستقرٌّ فقط في مجموعة معينة من الحالات، تُسمَّى الحالات الثابتة أو المستقرّة.
2- الفرق بين حالتين مستقرّتين مقدارٌ ثابت و يساوي hν.
كانت بعض سمات نموذج بور نصف شبه الكلاسيكي غريبةً للغاية مقارنةً بمبادئ الفيزياء الكلاسيكيّة، حيثُ أدخلت عنصرًا من الانقطاع وعدم التماسك الغريب عن الميكانيكا الكلاسيكية:
1- على ما يبدو، لم يكُن بالإمكان الوصول إلى كلِّ نقطة في الفضاء لإلكترون يتحرَّك حول نواة الهيدروجين؛ فخلال انتقاله من مدارٍ إلى آخر لم يكُن في مكانٍ محدَّد بين هذه المدارات.
2- كان من المستحيل التنبُّؤ بموعد انتقال الإلكترون بين المستويات وكيف ستتمُّ عملية الانتقال.
3- أشار رذرفورد إلى أنَّه إذا افترض المرء، كما فعل بور، أنَّ تردُّد الضوء ν، الذي ينبعث منه الإلكترون في مرحلةٍ انتقالية، يعتمد على الفرق بين مستوى الطاقة الأرضي ومستوى الطاقة النهائي، فيبدو وكأنَّ الإلكترون يجب أن “يعرِف” إلى أيِّ مستوى طاقة نهائي يتجِّه من أجل انبعاث الضوء بالتردُّد الصحيح.
4- قام أينشتاين بملاحظةٍ غريبة أخرى، إذ كان فضوليًا لمعرفةِ أيِّ اتِّجاهٍ قرَّر الفوتون الابتعاد عن الإلكترون.
في عام 1925، وضع فيرنر هايزنبيرغ، مساعد بور في كوبنهاغن في ذلك الوقت، المبادئ الأساسية لميكانيكا الكمّ الكاملة.
في نظريته الجديدة للمصفوفة، استبدل متغيِّرات التنقُّل الكلاسيكية بأُخرى غير متنقِّلة. في العام التالي، قدَّم إروين شرودنغر صياغةً أبسط للنظرية التي قدَّم فيها معادلة تفاضلية من الدرجة الثانية لوظيفة الموجة. بعدها، اِقترح ماكس بورن في نفس العام تفسيرًا إحصائيًا يعبِّر فيه مربع القيمة المطلقة لدالة الموجة عن سعة احتمال في قياس النتائج.
2. الفيزياء الكلاسيكية:
رأى بور أنَّ ميكانيكا الكمّ أكثر تعميمًا للفيزياء الكلاسيكية، على الرغم من أنَّها تنتهك بعض المبادئ الوجودية الأساسية التي تقوم عليها الفيزياء الكلاسيكية. بعض هذه المبادئ هي:
– مبادئ الجسيمات الماديَّة وهويتها:
1- الجسيماتُ الماديَّة (أنظمة الجسيمات) موجودة في المكان والزمان، والعمليات الفيزيائية تحدث في المكان والزمان، أي أنَّها سمةٌ أساسية لجميع التغيُّرات وحركة الجسيمات المادية.
2- الجسيماتُ الماديَّة (الأنظمة) قابلة للتوطين، أي أنَّها غير موجودة في كلِّ مكانٍ في المكان والزمان، بدلًا من ذلك، فهي محصورةٌ في أماكن وأوقات محدَّدة.
3- لا يمكن أن يَشغل مكانًا معيَّنًا سوى جُسيم واحد من نفس النوع في كل مرة.
4- يوجد جُسيمان ماديَّان من نفس النوع بشكلٍ منفصل، أي أنَّ جسمين ينتميان إلى نفس النوع لا يمكن أن يكون لهما موقعٌ متطابق في وقتٍ واحد، وبالتالي يجب فصلهما في المكان والزمان.
5- الجسيمات الماديَّة قابلة للعدّ، أيُّ جُسيمين من نفس النوع يُحسبان رقمًا واحدًا إذا كان كلاهما يشتركان في موقعٍ متطابق في وقتٍ واحد.
6- مبدأ الخصائص المنفصلة، أيُّ جسيمين (نظامين) مفصولين في المكان والزمان لكلٍّ منهما حالة أو خصائص متأصِّلة مستقلَّة.
7- مبدأ تحديد القيمة، أي أنَّ جميع الحالات أو الخصائص المتأصِّلة لها قيمة أو حجم معيَّن مستقل عن قيمة أو حجم الخصائص الأخرى.
8- مبدأ السببيَّة، أي أنَّ كلَّ حدث وكلّ تغيير في النظام له سبب.
9- مبدأ التحديد، أي أنَّ كلّ حالة لجُسيم يتمُّ تحديدها.
10- مبدأ الاستمرارية، أي أنَّ جميع العمليات التي تُظهر اختلافًا بين الحالة الأولية والحالة النهائية يجب أن تمرَّ بكلِّ حالة تداخل ممكنة.
11- وأخيرًا مبدأ حفظ الطاقة، الطاقة لا تُفنى ولا تُستحدث ولكِن يمكن تحويلها من شكلٍ إلى آخر.
نظرًا لهذهِ المبادئ، من الممكن أن تتداخل الميكانيكا الكلاسيكية مع ميكانيكا الكمّ، فيمكن تحديد حالة سابقة لجُسيم عن طريق معرفة حالته اللاحقة.
عادةً ما يتمُّ الحصول على معرفة الحالة الأولية من خلال مراقبة خصائص الحالة للجُسيم في الوقت المحدَّد على أنَّه اللحظة الأولى. علاوةً على ذلك، لا تؤثِّر مراقبة النظام على سلوكه اللاحق، أو إذا كان من المفترض أن تؤثِّر الملاحظة بطريقةٍ ما على هذا السلوك، فمن الممكن دائمًا دمج التأثير في التنبُّؤ بالحالة المتأخرة للنظام.
وهكذا، في الفيزياء الكلاسيكية، يمكننا دائمًا التمييز بشكلٍ واضح بين حالة أداة القياس المستخدمة في النظام وحالة النظام الماديّ نفسه، وهذا يعني أنَّ الوصف الماديّ للنظام هو موضوعيّ، لأنَّ تعريف أيّ حالة لاحقة لا يعتمد على ظروف القياس أو ظروف المراقبة الأُخرى.
3. مبدأ التوافُق:
كان المبدأ التوجيهيّ وراء عمل بور ولاحقًا هايزنبيرغ في تطوير نظرية متَّسقة للذرات هو مبدأ التوافُق.
ينصُّ المبدأ الكامل على أنَّه يُسمح بالانتقال بين الحالات المستقرة إذا وفقط كان هناك مكوِّن توافقي مُناظر في الحركة الكلاسيكية. علاوةً على ذلك، أدرك بور أنَّه وفقًا لنظريته لذرة الهيدروجين، فإنَّ تردُّدات الإشعاع بسبب انتقال الإلكترون بين الحالات الثابتة ذات الأرقام الكمومية العالية، أي الحالات البعيدة عن الحالة الأرضية، تتطابق تقريبًا مع نتائج الديناميكا الكهربائية الكلاسيكية. ومن ثمَّ، في البحث عن نظرية ميكانيكا الكم، أصبح من المتطلبات المنهجية لبور أنَّ أيَّ نظريةٍ أُخرى للذرَّة يجب أن تتنبَّأ بالقيم في مجالات الأعداد الكمومية العالية التي يجب أن تكون تقريبًا قريبًا لقيم الفيزياء الكلاسيكية.
كان مبدأ التوافُق مبدأً استرشاديًا يهدف إلى التأكُّد من أنَّه في المناطق التي يمكن فيها إهمال تأثير ثابت بلانك، يجب أن تكون القيم العددية التي تنبَّأت بها مثل هذه النظرية هي نفسها كما لو كانت متوقَّعة من قبل نظرية الإشعاع الكلاسيكية.
على الرغم من أنَّ مبدأ الاستبعاد وإدخال البرم اندلع مع محاولة شرح هيكل العناصر الأساسية على غرار حجَّة مبدأ التوافق (كما أشار باولي في رسالةٍ إلى بور) اِستمرَّ بور في التفكير فيه كمبدأ منهجي مهم في محاولة لتأسيس نظرية كميَّة متماسكة. في الواقع، لقد أعرب مرارًا عن رأيٍ مفاده أنَّ ميكانيكا المصفوفة لهايزنبيرغ خرجت إلى النور بتوجيهٍ من هذا المبدأ بالذات. في محاضراته في فاراداي من عام 1932، على سبيل المثال، يشدِّد بور على ما يلي: الرموز التي تشير إلى العمليات الأولية واحتمال حدوثها. ومع ذلك، اِعترف بور بأن حجَّة مبدأ التوافُق فشلت أيضًا في تلك الحالات التي يجب فيها إدخال مفاهيم غير تقليدية معينة في وصف الذرات. لكنَّه لا يزال يعتقد أنَّ حجَّة التوافُق لا غنى عنها لأسباب هيكلية ودلالية في بناء نظرية كمية مناسبة كنظرية معممة من الميكانيكا الكلاسيكية.
في الواقع، البرم هو خاصية كمومية للإلكترونات التي لا يمكن فهمها على أنَّها زخم زاوي كلاسيكي. وغنيٌّ عن القول، فقد فهم بور تمامًا ذلك. لكنَّه لم يعتقد أنَّ هذا الاكتشاف استبعد استخدام مبدأ التوافُق كدليلٍ لإيجاد نظرية كميّة مُرضية.
تفسير كوبنهاغن ليس وجهةَ نظرٍ متجانسة. بدأت هذه البصيرة في الظهور بين المؤرِّخين وفلاسفة العلوم على مدى السنوات العشر إلى الخمس عشرة الماضية. كلٌّ من جيمس كوشينغ (1994) ومارا بيلر (1999) يعتبران وجود تفسير كوبنهاغن الوحدوي في تفسيرهما الاجتماعي والمؤسس للهيمنة الكاملة لمذهب كوبنهاغن التقليدي، وجهة نظر يجدونها شخصيًا غير مُقنعة وعفا عليها الزمن جُزئيًّا، لأنَّهم قرأوا وجهة نظر بور حول ميكانيكا الكمّ من خلال عرض هايزنبيرغ، لكنَّ المؤرخين وفلاسفة العلوم أدركوا تدريجيًّا أنَّ صور تكامل بور وهايزنبيرغ على السطح قد تبدو متشابهة ولكن تحت السطح تختلف بشكل كبير.
يبدو أنَّنا نعيش في عالمٍ كميّ لأنَّ كلَّ شيء يتكون من جُزيئات ذرّية ودون ذرّية. ومن ثمَّ يبدو أنَّ الفيزياء الكلاسيكية هي مجرد تقريب مفيد لعالمٍ ميكانيكيّ كمّي على جميع المقاييس. مثل هذه النظرة، التي يدعمها العديد من علماء الفيزياء الحديثين، يمكن تسميتها الأصولية الكمومية (Zinkernagel forthcoming).
يمكن تعريفها على أنَّها موضعٌ يحتوي على مكونين:
1) كلُّ شيء في الكون هو في الأساس ذو طبيعة كمّية (المكون الوجودي).
2) كلُّ شيء في الكون يمكن وصفه في النهاية بمصطلحات ميكانيكيا الكمّ (المكون المعرفي).
–
ترجمة: رغد محمد
تدقيق: فاطمة صباح
تعديل الصورة ونشر: تبارك عبد العظيم
المصدر: هنا