–
إذا كنت تشعر بالذنب لأن الوقت الذي قضيته في العزلة لم يكن مثمرًا، فهوّن عليك؛ فالسنة التي قضاها في الحجر لم تكن سنة المعجزات ((Annus Mirabilis)) كما قد تزعم.
في عام قصير من الإلهام والتحديق في النوافذ بحزن على أمل أن يكون عام 2021 أقل وباءً ودخانا وسياسة حزبية، لا يمكننا إلقاء اللوم على بعض مشاهير العلم في محاولة رسم جانب مضيء للأحداث.
في وقت سابق من هذا العام، قام نيل ديغراس تايسون (Neil deGrasse Tyson) بالتغريد على مدة التاريخ هذه بأسلوبه الفكاهي المعتاد قائلا:
” عندما بقي إسحاق نيوتن في المنزل لتجنب وباء عام 1665، اكتشف قوانين الجاذبية والبصريات، واخترع حساب التفاضل والتكامل. يشاع أنه كانت هناك قاعدة صارمة في منزله هي (ممنوع مشاهدة التلفاز).”
(يحاول نيل هنا أن يعطي درسا فيما إذا كنت تريد أن تصبح مثله عبقريا، فعليك أن لا تضيع وقتك في مشاهدة التلفاز، علما أن التلفاز تم اختراعه في عشرينات القرن العشرين) *المترجم
قدّم ريتشارد دوكينز (Richard Dawkins) مؤخرًا في المقتطف نفسه تغريدة على تويتر:
“في عام 1665 أغلقت جامعة كامبريدج ابوابها بسبب الطاعون. عاد إسحاق نيوتن إلى لينكولنشاير (Lincolnshire) الريفية. خلال عامين في العزل، عمل على حساب التفاضل والتكامل، والمعنى الحقيقي للون والجاذبية ومدارات الكواكب وقوانين الحركة الثلاثة. هل سيكون عام 2020 هو سنة المعجزات لأحدهم؟”
لإعطاء خلفية أكثر قليلاً، كان إسحاق نيوتن طالبًا جديدًا في أوائل العشرينات من عمره التحق بكلية ترينيتي (Trinity College) في جامعة كامبريدج حين أجبر الطاعون الدبلي (bubonic plague) جامعته على الإغلاق في عام 1665.
لذلك عاد إلى المنزل، إذ قضى خلال العام التالي أو نحو ذلك وقت فراغه بوصفه عبقريًا عامًا، يحقق الاكتشاف بعد الاكتشاف. يتكئ في فعله بالضبط على من تسأل، لكنه غالبًا يتضمن ذكر الجاذبية والقوى والبصريات وحساب التفاضل والتكامل.
إنها حكاية تكررت كثيرًا على مر السنين، ولكن الآن بعد أن حصلنا جميعًا على تجربة مباشرة مع الوباء الذي سيدخل التاريخ، عادت قصة نيوتن تُنسج مرة أخرى.
كلنا نحب قصة اكتشاف ملهمة، والعلماء ليسوا محصنين. لكن عند سرد قصة “العام المعجزة” لنيوتن، غالبًا ما يمكن إخفاء التفاصيل المهمة، من أجل التركيز على دور البطل.
ربما عدّها نيوتن نفسه مدة مثمرة إلى حد ما. فقد نُشر عام 1888 اقتباس سرد لإنجازاته في عامي 1665 و1666: ” في تلك الأيام كنت في بداية عمري للاختراع”.
حتى لو لم نمضِ على كلامه، فما يزال بإمكاننا أن نكون على ثقة من أن وقته كان مشغولًا بدراسات في الرياضيات. كتب ملخصًا لكل شيء تعلمه في أكتوبر عام 1666، والذي تضمن بذور ما نعرفه الآن باسم حساب التفاضل والتكامل، والذي بالتأكيد عمل لا يصدر من عقل خامل.
ولكن هنا تصبح هذه التفاصيل المخفية مهمة. مؤرخ العلوم ثوني كريستي (Thony Christie) لديه النقاط الدقيقة كلها موضحة في مدونة الـ (The Renaissance Mathematicus)، وهي مدونة تستحق وقتك في القراءة.
بعيدًا عن “اختراع حساب التفاضل والتكامل”، قضى نيوتن ذلك الوقت في تلخيص قرون من العمل عن هذا الموضوع، وجمعها وتوسيعها في مشروع قد يمتد إلى ما هو أبعد من بضع سنوات ملعونة بالأوبئة.
هذا لا يعني التقليل من القفزات التي تم تحقيقها، أو التقليل من أهمية مواهب نيوتن الرياضية في تطوير المجال. بدلاً من ذلك، لا يمكن تقديره إلا بوصفه فصلًا تسبقه أعمال عمالقة مثل أرخميدس وبونافينتورا كافاليري ويوهانس كيبلر وجون واليس.
هذا موضوع نراه مكررًا في أعمال نيوتن الأخرى. مستندا على أعمال عمالقة مثل ديكارت وكبلر وجاليليو وابن الهيثم، قام بالترتيب والتعديل والتلاعب بالأفكار التي خلفها علماء الرياضيات والفلاسفة السابقون.
العديد من هذه التعديلات تحولت إلى ثورات. كانت لبصيرة نيوتن في الطبيعة الشاملة للجاذبية (سواء أكانت مستوحاة من تفاحة ساقطة أم لا) عواقب تتجاوز مجال الفيزياء. على سبيل المثال، فدمت تجاربه عن طبيعة ضوء الالوان العالم بشكل مجازي.
تلك السنوات الذهبية القليلة التي قضاها في المنزل، بعيدًا عن قاعات كامبريدج المهجورة، ساعدت بشكل شبه مؤكد في إرساء أسس عقود العمل المستقبلية.
إذن فأين الكذبة؟ إذا كان نيوتن نحلة مجدة في عام 1666، فلماذا لا نستمد من مساعيه بعض الإلهام في لحظة العزلة الفاضلة؟
إذا كان إسحاق نيوتن هو مصدر إلهامك لحل مشكلة ثابت هابل، وتحطيم تخمين التوائم الاولية (twin prime conjecture)، واختراع كعكة قليلة الدسم ذات مذاق جيد بالفعل، كل ذلك قبل الإفطار، كل ذلك يمنحك المزيد من القوة.
بالنسبة لنيوتن ، لم تكن دراسته هوايات جديدة تملأ ساعات شاغرة فجأة – لقد كانت استمرارًا لشغف استمر بضع سنوات قصيرة من الطاعون ، ومنحه الامتياز النسبي الذي كان يتمتع به ، والذي يتضمن قيام الخدم بالأعمال المنزلية.
يمكن إرجاع اهتمامه بالرياضيات التي أسهمت في اختراع حساب التفاضل والتكامل إلى إحباطه الجهود المبذولة لفك شفرة كتاب عن علم التنجيم كان قد التقطه في معرض. حتى الكتالوج الواسع للموضوعات التي كانت تشغل ذهنه خلال تلك السنوات قد تم بالفعل إدراجها في ملحوظاته قبل وقت طويل من وجود ظهور الطاعون.
لخص الكاتب العلمي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا توماس ليفنسون (Thomas Levenson) الأمر بشكل مثالي في مقال كتبه في وقت سابق من هذا العام لصحيفة نيويوركر (The New Yorker):
“كان نيوتن قادرًا على فعل ما فعله ليس بسبب المكان الذي وجد نفسه فيه في أثناء الطاعون، ولكن بسبب من كان نيوتن – فقد كان أحد أعظم علماء الرياضيات والفلاسفة الطبيعيين في العصور كلها، والذي كان قادرًا لسنوات عدة أن لا يفعل شيئًا آخر في وقته سوى التفكير وايجاد الاسباب والحساب”.
القصص التي نحكيها عن الاكتشافات العلمية ليست مجرد احتفالات بالماضي، ولكنها نماذج لكيفية إجراء البحوث اليوم وفي المستقبل. نحن نسعى إلى الرقي في مستوى تلك التوقعات، ونعاني من الشعور بالفشل عندما نقصر عن تحقيقها.
بقدر ما يمكن أن تجلب الشدائد الفرص، فلا يوجد سبب للشك في أن وقت نيوتن في المنزل كان بأي حال من الأحوال يمكن مقارنته بالعزلة التي يواجهها الكثير منا في عام 2020.
تستحق قصته أن تُشارك ليس كلحظة محوريّة في وقت كئيب من التاريخ، ولكن كحلقة وصل مهمة في سلسلة من التنوير. قصة تستمر في التطوّر بفضل تفاني كلّ عالم ومهندس ومفكر اليوم. حتى لو لم يكن لديهم سنوات معجزة.
–
ترجمة: حسن خنجر
تدقيق لغوي: سرمد عادل
مراجعة وتعديل الصورة: تبارك عبد العظيم
المصدر: هنا