إنَّ السبيل الوحيد الذي يُمكِّننا من دراسة الكواكب والكويكبات بصورةٍ أقرب هو عبر الصخور التي تسقطُ على الأرض، أو المنقولة عمدًا من الفضاء.
من بين كافَّة العلوم، سلَّط علم الفلك ضوءًا ساطعًا على موقعنا من الكون، إلّا أنَّه من غير المعروف أنَّ الكثير من فهمنا للفضاء الخارجي يأتي من تخصُّصٍ مختلفٍ تمامًا: الجيولوجيا، فلو سألت شخصًا ما عن أداةٍ نستعملها لكشفِ أسرار الفضاء فمن المحتمل أنَّ إجابته ستكون التلسكوب بدلًا من الميكروسكوب أو المطرقة، لكن لو فكرت مليًّا بالأمر، فإنَّ أيَّ شيءٍ تقع عليه أيدينا تقريبًا هو صخرةٌ لا غير. نعم، قد يتمُّ إرجاع مخلَّفات فضائية بأمانٍ أحيانًا، وقد تمَّ بالفعل إرجاع جسيمات من الرياح الشمسية إلى الأرض من خلال بعثة Gensis التابعة لوكالة ناسا عام 2004، إلّا أنَّ كمية الصخور التي لدينا على الأرض تتجاوز الكثير؛ فلدينا صخرة من القمر بفضل بعثة Apollo، وصخور من كوكب المريخ التي انفجرت في الفضاء خلال اصطدامات كويكب على أسطح هذه الاجسام التي طافت في النهاية بالقرب من كوكبنا وسقطت على الأرض كنيزك. لدينا كذلك صخور من المذنبات بفضل بعثة Stardust، وصخور من حزام الكويكب، ومن طقطقة النيازك التي تمطر السماوات، ويُمكننا قريبًا الحصول على صخور من كويكب Bennu بعدَ أن حقَّقت مهمَّة إعادة العيِّنات OSIRIS – Rex التابعة لوكالة ناسا NASA هبوطًا ناجحًا. ويُمكننا أيضًا دراسة بقايا الحفر الناتجة عن اصطدام الكويكبات بسطح الأرض بسرعة تفوق سرعة الصوت.
في الواقع، فإنَّ الصخور هي السبيل الوحيد عمليًا للاحتفاظ بقِطعٍ من الفضاء الخارجي، فالتلسكوب وبعثات الفضاء الروبوتية على قوَّتها، يُمكنها فقط أن تأخذنا بعيدًا جدًا.
لقد تعلَّمنا الكثير عن النظام الشمسي وما وراءه من خلال الصخور السماوية وخاصةً النيازك، في الوقت الذي تحتلُّ فيه النيازك مكانةً خاصَّة عند الكثيرين فإنَّها تبقى أحجاراً، وكالمثل الذي يقول: لا أحد يعرف الصخرة أفضل من الجيولوجي، فإنَّنا نستخدم أدوات الجيولوجيا لفهم الصخور التي تأتي من الفضاء.
تنشأ حياة النجوم بانهيار السدم بين النجوم بفعل الجاذبية، الجزء الأكبر كثافةً في المركز يشكِّل النجم نفسه، أمَّا البقية فتشكِّل غيمةً دوارة من الغاز والغبار تشبه الكعكة الصغيرة تُعرف بإسم قرص الكواكب الأولية. تبدأ هذه الأقراص في التبلور إلى جزيئات مجهرية من الغبار الصخري ويتَّحد في النهاية ليُشكِّل الكويكبات والمذنبات والكواكب. ولدينا نظرة تلسكوبية على أرض الواقع من هذه العملية في تلسكوبات كـALMA وHubble، لكن لدينا الكثير لنتعلَّمه على بُعد السنوات الضوئية.
تعطينا النيازك نظرةً مجهريةً عن قرص الكواكب الأولية التي يتشكَّل منها النظام الشمسي، لأنَّ الكثير ما زالوا يحتفظون بهذه الذرَّات البدائية من الغبار الصخري، وليس من المغالاة القول بأنَّها قطعٌ من الغبار.
كان من أوائل الذين أدركوا ذلك عالم الجيولوجيا الإنجليزي هنري كليفتون سوربي Henry Clifton Sorby الذي قال في محاضرةٍ له عام 1877 أنَّ “النيازك هي مخلَّفات المادة الكونية التي تتجمَّع لتشكِّل الكواكب”، وقد توصَّل لهذا الاستنتاج المذهل باستخدام المعرفة والمهارة التي اِكتسبها من دراسة الصخور الأرضية تحت أسطوانة المجهر الجيولوجي. لقد نقلت رؤية سوربي العظيمة وجهة نظرنا عن النيازك والنظام الشمسي للأبد.
بعد تفكيك هذه الذرَّات الغبارية في المختبر خلال 150 سنة، صرنا على درايةٍ بصفاتها الجيولوجية، واِستنتجنا بثقةٍ أشكال البيئات التي ظهرت في نظامنا الشمسي البدائي والأنظمة الشمسية الأُخرى عبر المجرة. وبدون النيازك ومعرفتنا بكيفية شكل الصخور الأرضية كانت هذه البيئات المفقودة السحيقة بعيدةً عن درايتنا ولكان من المستحيلات تحديد الآليات التي من خلالها تتشكَّل أنظمة الكواكب المنتظمة بدقة بانتظام الساعة.
بما أنَّ النيازك مصنوعة من مواد بدائية فإنَّها تعتبر الاشياء الأقدم التي تمسّها أيدينا حرفيًا. بعد تأريخ هذه النيازك، وضعنا مقياسًا زمنيًا عالي الدقة للنظام الشمسي الناشئ و الأحداث التي تجلَّت فيه.
نؤرخ النيازك باستخدام نفس الادوات التي تستخدمها الجيولوجيا لتأريخ الصخور الأرضية “التأريخ الإشعاعي”، في الواقع فإنَّ عمر النظام الشمسي الـ4,567,000,000 عام (أي 4.567 مليار سنة)، يُعرَّف من خلال التحلل الإشعاعي لليورانيوم إلى رصاص داخل النيازك.
وقد قاس علماء الجيولوجيا المتخصصون في تأريخ الصخور هذا العمر إلى ما يزيد أو ينقص عن 160,000 سنة، أي ما يعادل المسافة من مانشستر، المملكة المتحدة، إلى مدينة نيويورك بحدود بضع مئات من الأمتار.
(تأثيرٌ عظيم):
بنظرةٍ أقرب إلى كوكبنا، لعب الجيولوجيون -ربَّما ليسوا أكثر شهرة من الراحل يوجين “جين” شوميكر- دورًا حاسمًا في فهم مكان كوكبنا في الفضاء. في الخمسينيات من القرن الماضي، اِكتشف شوميكر Shoemaker، وهو عالم جيولوجي، مع زملائه من خلال التدريب، الكوارتز الصادم (معدن يتشكَّل فقط تحت الضغوط الشديدة التي تسبِّبها الارتطامات من الفضاء) في الصخور المحيطة بفوهة بارينجر (المعروفة أيضًا بإسم “الفوهة النيزكية”) في أريزونا، وأصبح أول من أثبت بشكل قاطع أصله خارج كوكب الأرض من اصطدام كويكب بالأرض. (في ذلك الوقت، كان هناك جدل حول ما إذا كانت الفوهة قد سبَّبها كويكب أم أنَّها مجرد تنفيس بركان خامد). كما أدَّى رسم الخرائط الجيولوجية واكتشاف المزيد من الكوارتز المدهش إلى قيام شوميكر Shoemaker وزملائه بتحديد فوهة صدمية ثانية: فوهة Nördlinger Ries الصدمية التي يبلغ عرضها 15 ميلًا في بافاريا بألمانيا.
لقد قادت شوميكر أبحاثه في الحفر ذات التأثير الأرضي في الستينيات إلى إحياء فكرةٍ قديمة مفادها أنَّ فوهات القمر تشكلت من خلال الصدمات: اليوم، نحنُ نعلم أنَّه كان على حق، وندرك أنَّ سطح القمر تتخلَّله بالفعل ندوب من آثارٍ من الفضاء.
نشكر عالم الجيولوجيا شوميكر Shoemaker أيضًا على صخور Apollo القمرية. باستخدام مهاراته الميدانية الجيولوجية، قام بتدريب رواد الفضاء على كيفية جمع عيِّنات الصخور، تلك العينات التي أحضرها رواد الفضاء أحدثت ثورةً في نظرتنا للقمر. (في هذه الملاحظة، كان العالم الوحيد الذي سار على سطح القمر هاريسون “جاك” شميت Harrison “Jack” Schmitt، الذي ركب هناك على متن أبولو 17، آخر رحلة في السلسلة، كان عالمًا جيولوجيًا).
في عام 1997 أصبح شوميكر أول شخصٍ (ولا يزال الوحيد) يتمُّ دفنه على القمر، عندما تمَّ إرسال بعض رماده إلى القمر على متن المركبة الفضائية Lunar Prospector.
وهكذا، مع ذلك، سنعيد صياغة القول المأثور: لا أحد يعرف صخرةً فضائيةً أفضل من الجيولوجي. وكما اتَّضح، فإنَّ الصخور الفضائية (النيازك وصخور القمر على حدٍّ سواء) والفوهات الصدمية، عند النظر إليها من خلال عدسة جيولوجية، لديها الكثير لتخبرنا به عن الكون.
هامش المترجمة:
الجيولوجيا (بالإنجليزية: Geology) هو فرع من فروع علوم الأرض مختصة بدراسة بينية الأرض الصلبة، والصخور التي تتكون منها، والعمليات التي تحدث عليها مع مرور الزمن. ومن الممكن أن يشير علم طبقات الأرض أيضًا إلى دراسة ميزات الأرض الصلبة لأيِّ كوكبٍ أرضي (مثل المريخ أو القمر).
الرياح الشمسية أو الرياح النجمية: هي تدفق الجزيئات المشحونة -بلازما- تكون خارجة من طبقة جو النجم العليا، وتحتوي بالغالب على إلكترونات وبروتونات، وبِطاقة تكون ١ كيلو إلكترون فولت. تلك الجسيمات قادرة على الخروج من جاذبية النجم جزئيًا بسبب الحرارة الشديدة لهالة الشمس، وأيضًا بسبب الطاقة الحركية العالية التي تكتسبها الجُسيمات خلال طريقة لا تزال غير مفهومة إلى وقتنا الحاضر.
أقراص الكواكب الأولية: هذا المصطلح يعبِّر عن كتل الغبار الصغيرة المتراكمة التي تتجمع وتتلاصق وتتحول إلى كرات كبيرة مكونةً الكواكب، وهي عبارةٌ عن نوع من الأقراص النجمية الدوَّارة التي تمثل طوقًا من الغاز والجليد يقع في نجم طور التكوين أو حديث التكوُّن.
ترجمة: طيبة حمد
تدقيق: فاطمة جبار
تعديل الصورة: فرات جمال
تدقيق: فاطمة جبار
تعديل الصورة: فرات جمال
المصدر: هنا