نمر في حياتنا بأحداث تبدو خارجة عن نطاق الصدفة أحيانًا، دون أدنى تفسير أو سبب. مثل هكذا صدف، تكون ذات معنى فقط للشخص الذي يمر بها، ويصعب تفسيرها للآخرين من دون التعرض للإتهام بـ”الخرافية” أو التفسير المبالغ به للأحداث. فقد تسمع أحدهم قائلًا: “حسنًا، لقد مررت اليوم بأشد الأمور غرابة”. ولكنه ليس من المعتاد أن يفسر أحدهم ما يمر به من صدفة بأكثر من وصفه لها بالغرابة. وهو وصف صحيح بلا شك، ولكن هل يقف الأمر عند هذا الحد؟ هل لنا أن نتسائل إن كانت مثل هكذا صدف تحمل أي معنى أو رسالة أو بعض من الرؤى العميقة؟
هذا هو السؤال الذي طرحه عالم النفس كارل يونغ عند طرحه لمفهوم جديد أسماه بـ “التزامنية”. والتزامنية ببساطة هي حدث غير إتفاقي في العالم الخارجي يتزامن مع ما يحصل في العالم الداخلي، كأحاسيسنا وأحلامنا.
لقد حاول يونغ من خلال هذا المفهوم أن يرفع الخرافة والخيال اللذين يحيطان بالأحداث المثيرة للإهتمام والتي لا يمكن التنبؤ بها، وأن يقدم بقدر ما يستطيع إطارًا علميًا من شأنه توضيح مثل هكذا أحداث وتمكين البحث فيها.
كانت محاولة يونغ مستوحاة من النصوص الصينية القديمة، بالأخص “كتاب التغييرات”، الذي ينص على وجود علاقة متبادلة بين الفرد والكون، فعندما ترتبط الحالة الداخلية للفرد مع العالم الخارجي تتحقق “التزامنية”. فعلى سبيل المثال قد تختار بشكل عشوائي برنامجًا تلفزيونيًا لتشاهده ثم تكتشف بعد مدة من الزمن أن الشخصية الرئيسية فيه تمر بنفس المحن والمعاناة التي تمر بها أنت. مثل هكذا أحداث تعتبرها الأديان الشرقية وحيًا، أي رسائل من الإله. والوحي مقدس في المسيحية أيضًا، ولكن في زماننا الحالي أصبح الغرب منطقيًا وعلميًا بشدة إلى درجة عدم تصديقه بوجود أي حكمة خلف ما نعدّه “مصادفة محضة “.
في كتابه “السببية: المبدأ الاتفاقي المترابط”، بذل يونغ جهدًا كبيرًا للقول بأنه لا ينكر الصدفة، أي أن ما هو ليس بمحتمل قد يكون فعلا ليس بمحتمل، مجردًا من أي هدف أو معنى. ولكن أحيانًا تتراكم بعض الصدف بطريقة تجعل من الصعب بمكان أن لا يتصور وجود شيء آخر يحدث. كما يقول في كتابه:
’ما كنت أعتبرها “صُدفًا” كانت مترابطة بشكل ذي معنى إلى حد أن “اتفاقية” تزامنها تمثل درجة عالية من الاحتمالية التي تحتاج إلى شخصية فلكية للتعبير عنها‘.
كارل يونغ، التزامنية: المبدأ الاتفاقي المترابط، صفحة 21.
يوضح يونغ مقصده بطرح مثال لمريضة شابة، والتي كانت كما يحلو له أن يصفها “غير متاحة نفسيًا”، أي عقلانية ومنطقية جدًا، لدرجة أنه حتى بعد محاولات عدة منه لم يستطع أن يجعلها تنفتح على حياتها العاطفية؛ لقد حصنت نفسها بذكائها فكانت نتيجة لذلك باردة وجامدة. أخبرت تلك الشابة يونغ بحلم رأته في الليلة السابقة، وكانت احداثه أن شخصًا ما أعطاها قطعة من المجوهرات على شكل خنفساء الجعران ذهبية اللون. وأثناء إخبارها له بهذا الحلم، سمع يونغ صوت نقر على النافذة، فتقدم نحوها ليفتحها، وعند ذلك أمسك بـ”حشرة طائرة كبيرة” وهي تطير إلى الداخل، والتي تبين فيما بعد أنها خنفساء الجعران ذات لون ذهبي مخضر، وهي مشابهة لتلك التي حلمت الشابة بها. ناول يونغ الخنفساء لها ثم قال: “هذه هي الجعران الخاصة بكِ”.
يقول يونغ أن تلك التجربة التزامنية التي يتعذر تفسيرها قد أحدثت ’الثقب المنشود في عقلانيتها وكسّرت جليد مقاومتها الفكرية‘، ونتيجة لذلك، يستطيع يونغ الاستمرار بعمله معها محققًا نتائج مرضية. لقد كانت تلك الشابة متيقنة بطبيعة الواقع، شديدة الجمود في قناعاتها وفرضياتها التي خيّلت لها أن لا شيء خارق، روحي، ما وراء الوصف والكلمات -من الممكن له أن يوهن عزيمتها. لقد خُرِم درعها، فما لبثت حتى خضعت فجأة لتغير في سلوكها، أشبه بتجدد نفسي. لربما يكون تحولها قد بدأ قبل لقائها بيونع بوقت طويل، ولكنه تطلب وقوع حادثة تزامنية لتسبب تلك النقلة المفاجئة في حالتها. فمن ثم كان ذلك الحلم مناسبًا للظروف المتغيرة التي كانت تمر بها، لأن الخنفساء رمز مصري للولادة والتحول والبعث. لقد خلُصَ يونغ فيما بعد إلى أن الرموز التي تظهر في الأحلام غالبًا ما تشير إلى حدث نفسي، ومثل هكذا ’متناظرات رمزية لا يمكن تفسيرها من دون نظرية اللاوعي الجمعي‘.
التزامنية ليست مجرد إعطاء معنى شخصي لأحداث غير محتملة؛ بل هي تعني أن مثل هكذا أحداث لها معنى في حد ذاتها. فهي رسالة من قوة أعظم تكشف لنا الترابط العميق بين الأحداث المادية والنفسية. وهذا ما يأخذنا إلى عالم الميتافيزيقيا، إلى تلك الطبقات التحتية للواقع المتجاوز للمادة، كاشفة لنا نظامًا أعمق وغير مرئي للكون. التزامنية إذن ارتباط مع كل ما هو روحي، متضمنة انفتاحًا حقيقيًا على كل ما هو غامض ومجهول وخارق للطبيعة. وهذا ادعاء جريء لأنه مخالف لرؤيتنا التجريبية والعلمية للعالم، وهو في الوقت نفسه مخالف للنهج العقلاني للدين.
وفي حين أن الحداثة تنظر إلى الصدفة كنشاط عشوائي، فإن الثقافات التقليدية تراها كعمل يقوم به كائن غير مرئي كالروح مثلًا. فلو حدث أمر استثنائي، ستراهم يقولون بأن واحدًا من الآلهة تشكل بهيئة مادية وقام بفعله. الأرواح والأجسام المادية في العالم القديم متداخلة مع بعضها البعض، فهم يعتبرون الآلهة تتجول معنا في الغابات والحقول؛ لأنهم كانوا يعتقدون بأنها وسيط، يربطنا بالعالم الداخلي والخارجي. إنها لا تتحدث بواسطة لغتنا البشرية، ولكن من خلال الرموز القديمة أو الأنماط البدائية، التي تنبثق من الوعي اللاجمعي وتعتبر النظير النفسي للغريزة. لقد قيل أن الأحلام على وجه الخصوص هي رسائل من الآلهة التي تتولى عملية تفكيرنا خلال نومنا. على أية حال، فإن العقل الغربي قد أقصى وبشكل كامل كل ما هو عجيب وغامض، منددًا به على أنه خرافة، ومفضلًا تحصين نفسه بالمنطق والعقل.
إن يونغ لا يريد القول بأنه يتوجب علينا أن نكون خرافيين وزاعمين بكون هذه الصدف من تدبير الآلهة. ولكنه يقترح أن نتعامل مع الصدف على أنها إضافة جديدة لفهمنا لأنفسنا والعالم من حولنا. لأن الغرض من التزامنية هو جذب انتباهنا من الباطن نحو شيء لا نعلمه عن أنفسنا أو فرصة لتطوير شخصيتنا؛ فعند تحلينا باليقظة إزاء هذه البصائر والإشارات نستطيع الاستفادة من كل ما يقدم لنا. الصدف هي علامات تتيح لنا التحكم بوجهتنا نحو فائدتنا بدلًا من السماح لها بأن تقودنا أين ما تشاء.
السؤال الأهم والمتوجب علينا طرحه لا يتعلق بمعرفة سبب حصول الصدفة، بل بمعرفة الرسالة التي تأتي بها. وكمثال على ذلك، فلنقل أنك حلمت في ليلة ما بصديق قديم، وفي اليوم التالي صادفت ذلك الصديق في الشارع -فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا التقيت بهذا الشخص في هذا اليوم بالذات؟ ربما هذا التزامن مؤشر على أنه يجب عليك قضاء مزيد من الوقت مع هذا الشخص، أو لعله يمتلك صفات تحتاج إلى زرعها في شخصيتك – في كلتا الحالتين يعمل الرمز كمذكّر بشيء أهملته أو لم تطوره في ذاتك. ولذلك فإن هذا الافتراض البسيط بأن الأشياء تحدث لغاية ما يفتح عينيك بما فيه الكفاية لملاحظة كيف أن الأشياء تتعارض وتتداخل مع حياتك، وكيف من الممكن أن تخدمك، وما الذي يمكنك تعلمه منها.
ترجمة: أحمد عبد العليم البناء
تعديل الصورة ونشر: Abilta E Zeus
المصدر: هنا