تاريخ وتعريف
“عليك استشارة طبيبك النفسي،” إن لم تكن عربيًا تعيش وسط هؤلاء ممن يضع معظمهم غشاوة زائفة حول العلاج النفسي تعطي له من الصفة ما ليس فيه، فربما تكون قد سمعت هذه العبارة يومًا ما، وربما قد انتابك بعض الفضول حول ماهية هذا النوع من العلاج، وإن كان الأمر كذلك فقراءة هذه السلسلة قد ترضي شيئًا من هذا الفضول.
بدأ العلاج النفسي قديمًا مع بداية التعرف على الأمراض النفسية، وبطبيعة الحال اختلفت المدارس في العلاج، فمنهم من ذهب إلى الطرق الدوائية بينما التمس الآخرون الطرق الكلامية والتي خرج منها فيما بعد طرق عدة منها العلاج السلوكي behavior therapy والعلاج المعرفيcognitive therapy واللذان اندمجا لاحقًا ليشكلا أشهر أنواع العلاج النفسي الكلامي وهو العلاج المعرفي السلوكي، ولما كان اليونانيون أكثرهم اهتمامًا بالعقل والحكمة؛ فقد كان لهم السبق حيث تعود أقدم الكتابات في هذا النوع من العلاج لهم، وعلى نحو أدق للمدرسة الرواقية stoicism خاصةً الفيلسوف الرواقي أبكتيتوسepictetus والذي اعتقد أنه يمكن استخدام المنطق لتمييز ونبذ الأفكار الخاطئة التي تقود في النهاية إلى المشاعر السيئة، ومن ناحية أخرى كتبت الحضارات الشرقية القديمة، لكن يُعتبر الشكل المعاصر لهذا العلاج إحياء لكتابات اليونانيون، فقد ألهمت -على سبيل المثال- أفكار أبكتيتوس المعالجين النفسيين في تعريف التشوهات المعرفية التي تساهم في اضطرابات القلق والإكتئاب depression and anxiety disorders.
ويعتبر العلاج المعرفي السلوكي من العلوم الحديثة حيث يقصر تاريخه المعاصر، فقد خرج بداية العلاج السلوكي والذي ينظر في السلوك والأفكار، والمشاعر التي تسببهما، ويميل أيضًا للبحث في السلوكيات المكتسبة وكيفية تأثير البيئة على هذه السلوكيات، وقد بدأ تطويره بدراسات إيفان بافلوف 1900 ثم واطسون وريينر حوالي لنظريات الإشراط conditioning ، وتم تطويره فيما بعد بواسطة جوليان روتر 1954 ثم ألبيرت باندورا عن طريق أعمالهم في نظرية التعلم الاجتماعيsocial learning theory ، لكن هذه المدرسة واجهت بعض النقد والمشاكل مما أدى إلى سطوع نجم العلاج المعرفي والذي دائمًا ما يرتبط التاريخ المعاصر له بأسمين لعالمين قد طرحا الفكرة في نفس الوقت تقريبًا ووضعا أساسًا صلدًا لهذه المدرسة وهما ألبرت أليس وآرون بيك، إلا أن الأول كان له السبق في الطرح، بينما الثاني قد طرحها بشكل أفضل فكان الانتشار الأكبر من نصيب أطروحته، وقد اقترح الاثنان بعض التعديلات حيث أسماه آليس بالعلاج العقلاني rational therapy عام 1955، ثم أعاد تسميته عام 1961 بالعلاج العقلاني الانفعاليemotive rational therapy وأخيرًا بالعلاج العقلاني الانفعالي السلوكيrational emotive behavior therapy REBT عام 1993بعد فكرة الدمج مع السلوكية، ومازال يُعرف إلى الآن بنفس الاسم, أما بالنسبة لبيك فقد أسماه العلاج المعرفي عام 1976، وأخيرًا كان هناك اقتراحات من بينها اقتراح أحد السلوكيين جلين ويلسون حيث أظهر أن إشراط الخوف الكلاسيكي classical fear conditioning يمكن التحكم به شفهيًا بواسطة الطرق التي تنبأت بها النظرية المعرفية، مما دعم فكرة دمج النظريتين السلوكية والمعرفية معًا، وفي الدراسات الأولية كانا يقارنا معًا ليُرى أيهما أكثر فاعلية، لكن خلال الفترة من 1980 إلى 1990، تم دمج التقنيات السلوكية والمعرفية ليكون العلاج المعرفي السلوكي، ولتكون أول ثمرات هذه الثورة هي تطوير علاج لاضطراب الهلع panic disorder بواسطة ديفيد كلارك وديفيد بارلو، أما بالنسبة للتسمية المركبة والمعروفة الآن (العلاج المعرفي السلوكي cognitive behavioral therapy CBT) فإنها كانت قد أُقترحت قبل عام 1980.
في ضوء هذا الاختصار الشديد لتاريخ العلاج المعرفي السلوكي CBT يمكن تعريفه على أنه طريقة للتحدث حول كيفية تفكيرك بنفسك والعالم من حولك والناس الآخرين أو كيفية تأثير ما تفعل على أفكارك ومشاعرك وبالتالي يساعدك على تغيير كلًا من كيفية التفكير وهو الجزء المعرفي، وكيفية التصرف وهو الجزء السلوكي، وذلك عن طريق تقسيم المشاكل إلى أجزاء صغير لتسهيل رؤية هذه المشاكل وفهم تأثيرها، ومن شأن هذه التغييرات أن تساعدك على الشعور بشكل أفضل لأن الهدف من هذا العلاج عمومًا هو التقليل من التفكير السلبي.
وعلى عكس بعض العلاجات الكلامية الأخرى كالتحليل النفسي psychoanalytic therapy الذي طوره سيجموند فرويد، والذي يركز كثيرًا حول أسباب المشكلة وأعراضها في الماضي، فإنه يركز على المشاكل والصعوبات الراهنة ويبحث في طرق تحسين حالتك الذهنية الحالية.
مقارنة بالعلاجات الكلامية الأخرى فإن العلاج المعرفي السلوكي يُعد الأكثر فعالية في الحالات التي يكون فيها القلق أو الاكتئاب هو المشكلة الرئيسية، ومع ذلك، ففي حالات أخرى قد لا يكون مجديًا وربما نمط آخر من العلاجات الكلامية سيكون مناسبًا خاصة إذا كان الشخص يعاني صعوبة في التعلم أو احتياجات عقلية معقدة، ولمعرفة الحالات التي يعالجها أجريت عديد من الدراسات على العلاج المعرفي السلوكي، وقد وجد أنه غالبًا ما يفيد في اضطرابات القلق والهلع والأكل anxiety, panic and eating disorders والرهاب بأنواعه phobias والاضطرابات المتعلقة بإدمان الكحول alcohol misuseوبعض اضطرابات النوم كالأرق insomnia واضطرابات الشخصية personality disorders والفصام schizophrenia واضطراب ما بعد الصدمة PTSDواضطراب الوسواس القهري OCD وأيضًا في حالات الاكتئابdepression البسيطة والمتوسطة أما في حالات الاكتئاب الشديد فيُنصح بداية بمضادات الاكتئاب، لأن نقص التركيز يتسبب في صعوبة لبداية فهم العلاج، وبالمناسبة فإن العلاج المعرفي السلوكي لا يتعارض أبدًا مع العلاج الدوائي، بل أنهما يكملان كلًا منهما الآخر.
لعلك تساءلت: كيف لمجرد الكلام أن يقوم بعلاج هذه الاضطرابات، وهل بالفعل يتم شفاؤها؟ لكنه ليس بالفعل مجرد كلام، فالمعالج قائله يجب أن يكون على مستوى عالي من التدريب ولديه رخصه ليقوم به، وبالفعل قد ثبت أنه يحدث تغييرًا ليس من الناحية النفسية فقط، وإنما من الناحية الفسيولوجية أيضًا ففي دراسة أجريت مؤخرًا على 26 شخص يعاني من اضطراب القلق العام SAD، وجد الباحثون بعد 9 أسابيع من العلاج المعرفي السلوكي بواسطة الكمبيوتر CCBT تغير في حجم دماغ المرضى وكذلك نقص في نشاط الدماغ، وقد وجدوا أنه كلما كان هناك تحسن في حالة المريض، كلما نقص لديه حجم اللوزة الدماغية amygdala، واقترحوا أن هذا النقص يؤدي إلى نقص النشاط في الدماغ.
مثل هذه الدراسات تثبت فعالية العلاج المعرفي السلوكي، والذي تم اعتماده من قبل الجمعيات والمنظمات الصحية العالمية مثلIAPT وNICE وAPA لعلاج الاضطرابات المذكورة أعلاه، لكن لكل منهم طريقة خاصة.
يعتبر هذا المقال مقدمة مختصرة جدًا حول تاريخ وتعريف العلاج المعرفي السلوكي، أما بالنسبة لنظرياته والجلسات وطرق العلاج والأسئلة الشائعة حوله وهذه الأمور فنناقشها لاحقًا في مقالات ضمن هذه السلسلة الملخصة، والتي هدفها إعطاء فكرة وإرضاء فضول، كما يمكنك الاستزادة من المواقع المرفقة مع المصادر.