الميتافيزيقية هي المكان الذي يلتقي به العلم والفلسفة. ولكن ذلك المنهج المعين موجود على أطراف الفيزياء الاعتيادية. حيث إن المؤهلين للدخول والبدء بالتأمل الواسع حول طبيعة الحقيقة هم الفلاسفة فقط.
و لكن السؤال حول الإرادة الحرة يغرس أعلامه على كلا المخيمين. تجادل الفلاسفة حوله منذ وقت أفلاطون، ولكن فجأة تفجر عالمان وأجابا هذا السؤال لنفسيهما. الشي الوحيد هو، من المحتمل أن إجابتهما غير مؤكدة بعد كل شيء.
الخيار ليس ملكك
قبل أن ندع علماء الأعصاب مفسدي الأفراح بتخريب المتعة ب”نتائجهم القابلة للتكرار” و “حقيقتهم الموضوعية”، لنستكشف أولاً تاريخ الفلاسفة ومناقشاتهم حول ماهية الإرادة الحرة. ( من المهم ملاحظة أن كل هذا يفترض أن الحقيقة تملك شيئاً يسمى بالحتمية، والذي يعني أن قوانين الكون تجري بطريق واحد فقط ).
وفقاً للفلاسفة، بصورة عامة هنالك
حالتان يجب أن يحققهما الشخص ليمتلك الإرادة الحرة. أولاً، تحتاج الإرادة أن يمتلك خيار فعل مختلف عن الاختيار الذي اختارته، وثانياً، يجب أن تكون المصدر لأفعالها. على سبيل المثال، لنقل أنك قدمت أولاً لصديقتك سوزان بدلة روبوت . ويعود الاختيار لها بالصعود فيها أو عدم الصعود، و لكنك تمتلك جهاز التحكم، في اللحظة التي تكون في الداخل، لن تعد تمتلك إرادة حرة – أنت تتحكم إذا ما كانت ستسخدم الليزر أو الطائرة النفاثة. الأن، فلنقل أن هناك عدة من أجهزة التحكم في داخل بدلة الروبوت، و لكنها لا تعلم كيف تصل إليهم. حتى لو استطاعت، تقنياً، أن تفعل شيئا أخرا عدا الذي تطلبه منها، يبقيك أنت مصدراً لأفعالها – ما زالت لا تمتلك إرادة حرة.
ما المهم في الموضوع ؟
حسناً، بالنسبة لمعظم الفلاسفة، إذا لم تستطع اختيار أفعالك، ولم تكن أنت المصدر لها، عندها لا يمكن أن تكون مسؤولاً عنها. إذن بعد كل ذلك، فإن الخسارة الناتجة عن بدلة الروبوت ليست مسؤولية المرأة المسكينة التي علقت بداخله.
والآن عِد نفسك مثل أي شي آخر مصنوع من ذرات، دماغك وجسدك خاضعان لقوانين الفيزياء. مثل الشخص الذي يمتلك جهاز التحكم لبدلة الروبوت لدى سوزان، يمكننا القول أن الديناميكا الحرارية ستتحكم بكل أفعالك على نحو ضيق، حتى وإذا كان هذا التحكم الضيق غير واضح من وجهة النظر داخل دماغك.
ولكن انتظر!، ربما تقول: “ربما لم تكن تحاول سوزان أن تفجر برج المياه القديم، لكن الشخص الذي يتحكم بها هو الذي يجبرها على فعل ذلك. و لكن الديناميكا الحرارية ليس بذلة روبوت – فأنا لا أحاول القيام بشيء في حين أن قوانين الفيزياء تجبرني على فعل شيء أخر ؛ أنا أفعل الأشياء التي أختارها”
هذا عادلٌ . تستطيع أن تقرر أنك تريد أن تأكل كوكيز الشوكلاتة وبسهولة تجعله يحصل، متفهماً أن لديك أيضاً الحكم حول عدم حصوله.
السؤال هو لماذا تريد تناول الكوكيز أساساً؟ نوعاً ما، ألا تحدد قوانين الفيزياء بعض الخيارات من أجلك، كذلك؟ هذا يعني، أنك لست مصدر الأفعال، الذي ينتهك إحدى شروط الإرادة الحرة. في تلك الحالة، أنت لست سوزان في بذلة الروبوت- مجازياً- أنت البذلة نفسها. يا الهي، نحن الآن في وضع أسوأ عن ما كنا عليه في البداية.
الإرادة الحرة
مع الطريقة التي كنا نصيغ بها الإرادة الحرة، تبدو على الأغلب غير متوافقة مع الحتمية – يسمى هذا المنظور بعدم التوافقية incompatibilism .
بعد كل هذا، إذا تقول الحتمية أن قوانين الكون لا يمكن أن تتغير، و هذه القوانين تحدد أفعالي الممكنة، عندها كيف يمكن أن أمتلك إرادة حرة؟ لحسن الحظ، فهذه ليست الطريقة الوحيدة للتفكير بالإرادة الحرة. هنالك العديد من الحجج التوافقية أيضاً.
ربما الإجابة الملائمة لحجة قوانين الكون التي تحد من أفعالك هو “كلا” . بسبب الجاذبية، لا أستطيع أن أختار الطيران إلى الطبقة العليا من الغلاف الجوي، هل يمس هذا إرادتي الحرة؟ بديهياً، الإجابة هي “لا”؛ لأن هذا يعني أن العالم المادي يمتلك بعض القيود بحيث أن مخيلتي لا تمتلكها. أو ربما المسألة هي أننا نصيغ المسؤوليات الأخلاقية بصورة خاطئة تماماً. ربما يجب أن نبدأ مع ماهية إحساسنا بالمسؤولية ومن ثم العودة إلى الوراء من هناك. في ورقة بحثية مهمة عام 1963، اقترح الفيلسوف پ. ف. ستراوسن P. F. Strawson أننا نعد ما يسميه ب”السلوكيات التفاعلية” (Reactive Attitudes) عندما نأخذ بعين الاعتبار المسؤوليات الأخلاقية. السلوكيات التفاعلية عبارة عن عواطف مثل الامتنان، الاستياء، أو المسامحة، و تنشأ كاستجابة لسلوكيات وأفعال الآخرين. ينشأ فهمنا للمباديء الأخلاقية من فهمنا للسلوكيات التفاعلية، التي يناقشها ستراوسن، إذا حقيقة أو كذبة، الحتمية ينبغي ألا تؤثر على نظرتنا للمباديء الأخلاقية.
إذا كان وجود المباديء الأخلاقية مشروط بوجود الإرادة الحرة، عندها ستكون الإرادة الحرة أيضاً غير متأثرة بالحتمية كذلك.
هل اتبعت هذا؟ ربما سيعطي هذا المثال معنى.
لنقل أنك تنتظر الحافلة، تقوم بالتفكير بأشغالك الخاصة، وفجأة وبشكل أخرق يسكب أحدهم القهوة على سترتك كلها. آه، ألم يستطيعوا أن يكونوا أكثر حذراً ؟ في الوقت الحالي، أنت تشعر بالسلوك التفاعلي للاستياء بينما تلوم الشخص على الحادثة. لكن فيما بعد، أدركت أن الشخص سكب القهوة لأنه دفع من شخص وراءه، وفجأة، تحول استياؤك إلى ذلك الطائش. بعد ذلك، أدركت أن ذلك الشخص دفع حامل القهوة بسبب سيارة خارجة عن السيطرة تنحدر في الشارع. الآن يبدو أنه أقل وضوحاً بكثير إذا كان هناك أي شخص تلومه على الحادثة، وسلوكك التفاعلي للاستياء لا يوجد مكان ليذهب إليه. لا يعتمد هذا النوع من الأحكام الشخصية المعقدة على الكون الحتمي أو غير الحتمي. لذا من المحتمل أن المباديء الأخلاقية وكذا الإرادة الحرة لا تمتلك حقاً علاقة مع الحتمية.
بينما كان الفلاسفة يذهبون وراءً وأماماً على ما يفترض أن يعد كإرادة حرة وإذا ما كانت المباديء الأخلاقية مطلباً لها، كان يعمل العلماء على طرق لاختبارها. في دراسة نُشِرت عام 2016، وجد عالما الأعصاب آدم بير Adam Bear وباول بلوم Paul Bloom دلائل قوية على أننا لا نقوم في الواقع بصنع قراراتنا و اختياراتنا. على الأقل، ليس بوعي.
تم تقديم المشاركين ل 5 دوائر بيضاء على شاشة الحاسوب وسؤالهم أي الدوائر ستصبح حمراء. بعد ذلك، تم سؤالهم أن يختاروا واحدة من الحلقات في عقلهم قبل أن تتحول إحداهم إلى اللون الأحمر والإبلاغ إذا ما كانوا قد حزروا الإجابة الصحيحة. في النسخة الأولى من الاختبار ، تحولت الدوائر إلى اللون الأحمر بسرعة كبيرة جداً، وفي النسخة الثانية أخذوا المزيد من الوقت. عندما كان هناك المزيد من الوقت ليفكروا ملياً في اختياراتهم، أبلغوا أن تنبؤاتهم كانت صحيحة في 20 بالمئة من المرات بشكل عشوائي تماماً، يختار الحاسوب واحدة من الحلقات الخمسة. ولكن عندما كانت الحلقات تتحول إلى الأحمر بسرعة أكبر، أبلغ المشاركون بإجابات صحيحة بنسبة 30 بالمئة من المرات. وهذا يقترح بأن الاختيار تم متأخرا عن أوانه: لقد رأوا الدائرة تتحول إلى الأحمر قبل أن يكملوا قرارهم، ولكن الأمر حصل سريعاً جداً بالنسبة لهم ليدركوا الأمر بوعيهم. لذا، كانوا يعتقدون أنهم كانوا يصنعون خياراتهم بحريتهم بالرغم من أنهم قد شاهدوا الحلقة الحمراء مسبقاً. “ربما تعيد عقولنا كتابة التاريخ” يقول بير عن النتائج.
كون الإرادة الحرة وهما هذا ما تم ضبطه كدليل، تفجرت القصة على مواقع التواصل الاجتماعي كما هو متوقع. وهذه التأويلات مفهومة لأنها تقترح أن الخيارات التي نصنعها هي ليست الخيارات التي نعتقد أننا صنعناها. ولكن ذلك لا يأخذ بعين الاعتبار الحقيقة وهي ، قبل كل شيء، الوقت المعطى، نحن أكثر احتمالية لنناقش بدقة الخيار الذي صنعناه. فبعد كل هذا، نحن نمتلك وقتاً أكثر من ومضة العين لنفكر بأغلب قراراتنا الأخلاقية. والشيء الثاني، لا يوجد سبب ضروري يدفعنا للتفكير أن التأثر غير الواعي يعني أن المختار لا يمتلك إرادة حرة عند الاختيار.
بالطبع أنت حر لتفكر بطريقة أخرى.
ترجمة ونشر: Mariam Ismail
تدقيق لغوي: سيرين منذر
تصميم: Hussam Ajeel
المصدر: هنا