يعتقد الوجوديون أنه يتعين علينا أن نعتنق الحرية والأصالة

 

أوسكار ديفيس

ترجمة: حسين طالب

أول من تناول هذه المسألة هو أرسطو في كتابه “الأخلاق النيقوماخية” Nicomachean Ethics ــ وربما كانت هذه هي المرة الأولى التي يركز فيها شخص في تاريخ الفكر الغربي على هذا الموضوع باعتباره مسألة قائمة بذاتها.لقد صاغ أرسطو إجابة غائية لمسألة الكيفية التي ينبغي لنا أن نعيش بها. وبعبارة أخرى، اقترح أرسطو إجابة تستند إلى التحقيق في هدفنا أو غاياتنا كنوع. لقد زعم أن هدفنا يمكن اكتشافه من خلال دراسة جوهرنا -السمات الأساسية لما يعنيه أن تكون إنساناً.

الغايات والجواهر

 

يقول أرسطو: “إن كل مهارة وكل استقصاء وكذلك كل عمل واختيار عقلاني يُعتقد أنه يهدف إلى تحقيق خير ما؛ ولهذا السبب تم وصف الخير بشكل مناسب بأنه ذلك الذي يهدف إليه كل شيء”.

ولفهم ما هو الخير وبالتالي ما يجب علينا فعله لتحقيق هذا الخير، يتعين علينا أولاً أن نفهم ما هي أنواع الأشياء التي نحن عليها. وهذا من شأنه أن يسمح لنا بتحديد ما هي الوظيفة الجيدة أو السيئة في الواقع.

بالنسبة لأرسطو، هذه حقيقة يمكن تطبيقها بشكل عام. خذ سكيناً على سبيل المثال، يتعين علينا أولاً أن نفهم ما هو السكين حتى نتمكن من تحديد الوظيفة المناسبة له. إن جوهر السكين هو أنها تقطع؛ وهذا هو هدفها. وبالتالي يمكننا أن نزعم أن السكين غير الحادة هي سكين سيئة ـ إذا لم تقطع بشكل جيد، فإنها تفشل في تحقيق وظيفتها على النحو اللائق. هكذا يرتبط الجوهر بالوظيفة وكيف أن تحقيق تلك الوظيفة يستلزم نوعاً من الخير للشيء المعني.

وبطبيعة الحال، فإن تحديد وظيفة السكين أو المطرقة أسهل بكثير من تحديد وظيفة الإنسان العاقل وبالتالي ما قد تنطوي عليه الحياة الخيرة والمرضية بالنسبة لنا كنوع. ويقول إن وظيفتنا يجب أن تكون أكثر من مجرد النمو والتغذية والتكاثر لأن النباتات قادرة على ذلك أيضاً. ويجب أن تكون وظيفتنا أيضا أكثر من مجرد الإدراك، لأن الحيوانات غير البشرية قادرة على ذلك.

وهو يقترح بذلك أن جوهرنا -ما يجعلنا فريدين -هو أن البشر قادر على التفكير.

إن ما تتطلبه الحياة الإنسانية الطيبة المزدهرة، إذن، هو “نوع من الحياة العملية للجزء الذي يتمتع بالعقل”. وهذه هي نقطة البداية لأخلاقيات أرسطو.

يجب علينا أن نتعلم كيف نفكر جيداً ونطور الحكمة العملية، كما يجب علينا أن نتعلم كيف نجد التوازن الصحيح بين الإفراط والتفريط في الفضيلة في تطبيق هذا التفكير على قراراتنا وأحكامنا. إننا لا نستطيع تحقيق اليودايمونيا eudemonia -السعادة الإنسانية الأسمى-إلا من خلال عيش حياة تتسم “بالنشاط الفاضل المنسجم مع العقل” وهي تلك الحياة التي نزدهر فيها ونحقق الوظائف التي تنبع من الفهم العميق والتقدير لما يميزنا.

الوجود يسبق الجوهر

 

لقد كان رد أرسطو مؤثراً إلى الحد الذي جعله يشكل مسار تطور القيم الغربية على مدى آلاف السنين وكذلك بفضل الفلاسفة واللاهوتيين مثل توما الأكويني، الذي يمكننا أن نتتبع تأثيره الدائم عبر العصور الوسطى إلى عصر النهضة ثم إلى عصر التنوير.

وخلال عصر التنوير تمت إعادة النظر في التقاليد الفلسفية والدينية السائدة، بما فيها أعمال أرسطو، في ضوء المبادئ الفكرية الغربية الجديدة.

ابتداءً من القرن الثامن عشر، شهد عصر التنوير ولادة العلم الحديث، ومعه اعتمد مبدأ nullius in verba -والذي يعني حرفياً “لا تصدق كلام أحد” والذي أصبح شعار الجمعية الملكية. وكان هناك انتشار مماثل للمناهج العلمانية لفهم طبيعة الواقع، وبالتالي، الطريقة التي ينبغي لنا أن نعيش بها حياتنا.

كانت الوجودية واحدة من أكثر الفلسفات العلمانية تأثيراً. ففي القرن العشرين، تولى جان بول سارتر، وهو شخصية رئيسية في الوجودية التحدي المتمثل في التفكير في معنى الحياة دون اللجوء إلى اللاهوت. لقد زعم سارتر أن أرسطو وأولئك الذين ساروا على خطاه كانوا على خطأ تام.

يرى الوجوديون أننا نمضي في حياتنا ونتخذ خيارات لا نهاية لها على ما يبدو. فنحن نختار ما نرتديه وما نقوله وما نختاره من وظائف وما نؤمن به. وكل هذه الخيارات تشكل هويتنا. وقد لخص سارتر هذا المبدأ في صيغة “الوجود يسبق الجوهر”. إن الوجوديين يعلموننا أننا أحرار تماماً في اختراع أنفسنا وبالتالي فإننا مسؤولون تماماً عن الهويات التي نختار تبنيها. وفي عام 1946 كتب سارتر في مقال له بعنوان “الوجودية مذهب إنساني”:

“إن التأثير الأول للوجودية هو أنها تجعل كل إنسان في امتلاك نفسه كما هو وتضع المسؤولية الكاملة عن وجوده على عاتقه”.

ويقول الوجوديون إن الأمر الحاسم لعيش حياة اصيلة هو الاعتراف بأننا نرغب في الحرية فوق كل شيء آخر. ويؤكدون أنه لا ينبغي لنا أن ننكر حقيقة كوننا أحراراً في الأساس. ولكنهم يعترفون أيضاً بأن لدينا الكثير من الخيارات حول ما يمكننا أن نكون عليه وما يمكننا أن نفعله، وهو ما يشكل مصدراً للقلق. إن هذا الألم هو إحساس ملموس بمسؤوليتنا العميقة.

إن الوجوديين يسلطون الضوء على ظاهرة مهمة: إننا جميعاً نقنع أنفسنا، في مرحلة ما وإلى حد ما، بأننا “مقيدون بظروف خارجية” من أجل الهروب من قلق حريتنا التي لا مفر منها. وان أحد هذه الظروف الخارجية هو الاعتقاد بأننا نمتلك جوهراً محدداً مسبقاً. ولكن الوجوديين يقدمون مجموعة أخرى من الأمثلة التي تكشف عن جوانب نفسية مختلفة. فيروي سارتر قصة عن مشاهدته لنادل في مقهى في باريس. ويلاحظ أن النادل يتحرك بدقة شديدة، وبسرعة شديدة، ويبدو حريصاً على إثارة الإعجاب. يعتقد سارتر أن المبالغة التي يبديها النادل في وصف نفسه بأنه نادل هي مجرد تمثيل ـ أي أن النادل يخدع نفسه ان يكون نادلاً. ويرى سارتر إن النادل ينكر ذاته الاصيلة، لقد اختار أن يتقمص هوية شيء آخر غير كونه حراً ومستقلاً. ان فعل النادل يكشف عن أنه ينكر حريته، وفي نهاية المطاف ينكر إنسانيته. يطلق سارتر على هذه الحالة “سوء النية”.

حياة أصيلة

 

وعلى النقيض من مفهوم أرسطو للسعادة، يرى الوجوديون أن التصرف الأصيل هو الخير الأسمى. وهذا يعني عدم التصرف على الإطلاق على نحو ينكر اننا احرار. فعندما نتخذ خياراً، فلابد أن يكون هذا الاختيار من اختيارنا بالكامل. ليس لدينا جوهر، نحن لا شيء إلا ما نصنعه لأنفسنا. في أحد الأيام، زاره سارتر أحد تلاميذه، وطلب منه النصيحة بشأن ما إذا كان ينبغي له أن ينضم إلى القوات الفرنسية وينتقم لموت أخيه، أو أن يبقى في المنزل ويقدم الدعم الحيوي لأمه. كان سارتر يعتقد أن تاريخ الفلسفة الأخلاقية لا يقدم أي مساعدة في مثل هذا الموقف. فأجاب التلميذ: “أنت حر، لذا اختر”، “بعبارة أخرى، اخترع”. كان الاختيار الوحيد الذي يمكن للتلميذ أن يتخذه هو الاختيار الذي يختاره بنفسه.

نحن جميعا لدينا مشاعر وأسئلة حول معنى وهدف حياتنا، وليس الأمر بسيطاً مثلاً كاختيار جانب بين الأرسطيين، أو الوجوديين، أو أي من التقاليد الأخلاقية الأخرى.

وجد ميشيل دي مونتين في مقاله ” التفلسف هو تعلم الموت” (1580) ما قد يكون حلاً وسطاً مثالياً. فهو يرى أن “التخطيط المسبق للموت هو التخطيط المسبق للحرية”، وأن “من تعلم الموت نسي معنى أن يكون عبداً”.

وبأسلوبه المميز في المزاح، يخلص مونتين إلى القول: “أريد أن يأخذني الموت وأنا أزرع الكرنب، ولكن من دون أي تفكير متأنٍ فيه، ناهيك عن عدم اكتمال حديقتي”.

ولعل أرسطو والوجوديين يتفقون على أن مجرد التفكير في هذه الأمور ـ الغايات والحرية والأصالة والفناء ـ هو السبيل إلى التغلب على الصمت الذي يفرضه علينا عدم فهم أنفسنا. وبهذا المعنى فإن دراسة الفلسفة تعني تعلم كيفية العيش.