“الحاجة إلى الجذور” لسيمون فايل

 

ريتشارد كوليدج

ترجمة: حسين طالب

ربما يكون التجذر هو أهم احتياجات الروح البشرية وأقلها إدراكاً.

هكذا ادعت الفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل في كتابها الكلاسيكي الصادر عام 1943 بعنوان “التجذر”The Need for Roots الذي نشر قبل أشهر من وفاتها في إنكلترا خلال بعض الأيام الأكثر ظلمة خلال الاحتلال الألماني لوطنها. وبعد مرور أكثر من ثمانين عاماً لا تزال المسألة المتعلقة بالحاجة الحيوية إلى أن يشعر الناس بالتجذر في مجتمعاتهم، وإضفاء المعنى والشعور بالقيمة على حياتهم وجهودهم، مسألة ملحة أكثر من أي وقت مضى.

شخصية غير عادية ومتناقضة

تعتبر سيمون فايل من أكثر الشخصيات غرابة وتناقضاً في القرن العشرين. ولدت في باريس عام 1909 في عائلة ميسورة الحال نسبياً ولكنها بدأت تشعر بالتعاطف الشديد مع الفقراء والمستضعفين الامر الذي دفعها إلى أخذ إجازة من التدريس في مرحلة ما للعمل في المصانع القاسية في باريس. فقد كانت عالمة من الطراز الأول في الفكر الفلسفي وحصلت على المركز الأول في امتحان الدخول الى المدرسة العليا للأساتذة. لقد وضعت مسيرتها الأكاديمية جانباً لتوجيه طاقاتها الهائلة نحو النشاط الاجتماعي. وكانت من دعاة السلام الملتزمين وقضت وقتاً في الخطوط الأمامية للحرب الأهلية الإسبانية. كانت سيمون فايل يهودية علمانية بالولادة، ومع ذلك فقد طورت إيماناً مسيحياً مكثفاً وتفانياً عملياً.

توفيت فايل في عام 1943 عن عمر يناهز 34 عاماً في مصحة في أشفورد، كينت، في ظروف لا تزال محل نقاش. كانت قد أصيبت بمرض السل، وكانت أيضاً تحد من نظامها الغذائي تضامناً مع الشعب الفرنسي المعذب. وهكذا انتهت حياة من التفاني والحماسة التي لا هوادة فيها.

لقد تم تأليف كتاب “التجذر” في ظل هذه الظروف من الضغط البدني الشديد.

طلبت حركة المقاومة “الفرنسية الحرة” في لندن من فايل كتابة تقرير حول إمكانيات تحقيق النهضة الفرنسية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وكانت النتيجة لا تقل عن جولة قوية في الأخلاق والفلسفة السياسية في سياق تاريخي واضح مع التركيز بلا هوادة على الضرورات العملية لإعادة بناء الأمة الفرنسية.

 

احتياجات الروح

يتميز كتاب فايل (التجذر) بالموضوعات المحافظة اجتماعياً والتقدمية اقتصادياً. وفي بعض النواحي تتنبأ أفكارها بما يسمى بالمواقف “ما بعد الليبرالية” في عصرنا والتي ترفض الفردية والاقتصاد المعولم. فهي تؤمن بالمجتمعات المحلية القوية وتدين الاستغلال الاقتصادي للفقراء ولديها شكوك عميقة بشأن دوافع الدولة الحديثة المركزية البيروقراطية.

يتسم العمل بطابع تقليدي عميق، يسترشد بفهم روحي قوي قائم على الفضيلة للحياة الطيبة والصالح العام، والذي يفرض التزامات قوية على جميع الناس.

ومع ذلك فهي تركز بلا هوادة على التعاطف مع الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع: سواء كانوا عمال المصانع في المناطق الحضرية المستعبدين وظيفياً أو الفلاحين الفقراء والمهمشين في المناطق الريفية. لا يبدأ الكتاب بالتركيز على الجذور فحسب بل ببيان قصير وكثيف للغاية مسلطاً الضوء على سلسلة من “احتياجات الروح البشرية” الأساسية الأخرى.

إن فايل تعطي الأولوية للواجبات على حساب الحقوق وهي تؤكد على أهمية المسؤولية الشخصية فضلاً عن التحرر. وتؤكد على حرية الرأي، ولكنها ليست ليبرالية في هذا الصدد (فالحقيقة تتفوق على أي حق في الدعاية). وتؤمن بالمساواة الاجتماعية وتؤكد على قيمة وشرف جميع المهن، ولكنها تدافع أيضاً عن شرعية التسلسل الهرمي والعقاب.

هناك اعتراف بالحاجة إلى النظام والملكية (الخاصة والجماعية) والأمن إلى جانب أهمية المخاطرة من أجل تنمية الطموح والشجاعة.

إن العمل بالنسبة لسيمون فايل هو حاجة أساسية للروح (وهي تتحدث في إحدى النقاط عن “روحانية العمل”) ولكن ليس العمل الذي يسحق الروح بالملل أو العنف.

أشكال الاقتلاع في المناطق الحضرية والريفية

وتنتقل فايل بعد ذلك إلى ما تعتبره التحدي الرئيسي في هذا العصر: معالجة مشكلة اقتلاع الشعوب من جذورها في كل من المناطق الحضرية والريفية في فرنسا، فضلاً عن اقتلاع الأمة الفرنسية بحد ذاتها. إن ملاحظاتها وتشخيصاتها هنا في كثير من الأحيان تكون حادة بقدر وصفاتها لمعالجتها.
الموضوع المشترك في هذه الاجزاء هو مجتمع بلا اتجاه يحتاج إلى شعور متجدد بالحياة المجتمعية النشطة حيث يشعر الناس بالهدف وفرصة المساهمة.
وفي تحليلها يواجه العمال الحضريون خطرين مزدوجين إما البطالة أو الاستغلال في أماكن العمل التي لا توفر لهم سوى فرص ضئيلة أو معدومة للحصول على مكافأة معنوية من عملهم. وفي الوقت نفسه، لا يولي النظام التعليمي البائس أي اهتمام لقيمة التعلم في حد ذاته ويفشل في تزويد الشباب بأي سياق تاريخي رصين لتوجيه شعور كبير بالانتماء والمصير.
وهذه الحالة ترقى إلى ان تكون “مرضاً خطيراً”. فقد يقع العمال في “خمول روحي” أو يهاجمون بطرق تتسم في كثير من الأحيان بالعنف نظاماً يحاصرهم ولا يقدم لهم سوى القليل من الاحترام وكذلك محنة العمال الريفيين الفرنسيين خطيرة بنفس القدر. وتكتب سيمون فايل عن التصدع غير الصحي بين الفلاحين الريفيين والعمال الحضريين وهجرة السكان من الريف و”الاستياء الذي تعاني منه المدن الإقليمية الفرنسية” والفقر وضعف الفرص التعليمية والآفاق الثقافية الضيقة.
إن تشخيص سيمون فايل يحمل مقارنة مع التحديات الغربية المعاصرة: التطلعات المحبطة واجراءات التوظيف الهشة والقلق الاجتماعي والهشاشة الاقتصادية والفجوة بين المناطق الحضرية والريفية والأنظمة التعليمية في أزمة الهدف. إن تركيزها على التأثيرات الاستغلالية لتقنيات مكان العمل في منتصف القرن العشرين وأنماط العمل الجديدة يذكرنا بالتحولات نحو اقتصاد سوق العمل الحر Gig Economy وغيره من أنماط العمل اليوم والتي غالباً ما تكبح التضامن في مكان العمل وفي النقابات العمالية.
وعلى نحو مماثل، فإن تسليط الضوء الذي قدمته سيمون فايل على إمكانية إثارة السخط الشعبي ضد الجناة المفترضين في عصرها (السياسيين والصناعيين وأولئك الذين يتعاونون في مخططاتهم) ينبئنا بالغضب المعاصر ضد ما يسمى “النخب” الثقافية والاقتصادية التي لا تحترم الناس العاديين، والتي تدافع عن القيم العالمية على حساب الهويات المحلية.
وكما زعم المؤلف البريطاني ديفيد جودهارت، فإن مناخ “نحن وهم” الناتج عن ذلك يعمل على تآكل التماسك الاجتماعي بشكل أكبر في حين يوفر الأساس للاحتجاج العنيف.
إن تحذير فايل بشأن اقتلاع الجذور الاجتماعية لا يقل أهمية اليوم:

“إن الشجرة التي تتآكل جذورها بالكامل تقريباً تسقط عند أول ضربة”.

 

الدولة القومية الوثنية

 

وعلى الرغم من أن سيمون فايل كانت تكتب في ظل حالة الطوارئ التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية، فإنها ترى أن أصول مشكلة الاقتلاع تعود إلى حقبة زمنية بعيدة في التاريخ. وتشير إلى أن صعود “الدولة” وتفوقها في العصر الحديث كان بمثابة الكارثة بالنسبة لأشكال أخرى من أشكال التفاعل الاجتماعي أكثر حيوية. لقد اخضع هذا الكيان المجرد (الدولة) جميع العلاقات الاجتماعية والولاءات وصنفها: الاسرة الممتدة والقرية والمنطقة والمحافظة والمقاطعة. إن الدولة تستخدم مواطنيها لتحقيق أغراضها الخاصة، بما في ذلك استخدامهم كوقود للمدافع في حروب الفتوحات بينما تطالب في الوقت نفسه بالولاء المطلق من خلال الوطنية.

وهنا ترى سيمون فايل التأثير الخبيث للإمبريالية الرومانية وراء نمو الدولة الفرنسية القوية، التي نشأت في القرن السابع عشر. ولم يقتصر الأمر على غزوها للمقاطعات واقتلاعها من جذورها لإنشاء الدولة الفرنسية الحديثة بل قامت كقوة إمبراطورية باقتلاع وصهر أقاليم أخرى وبالتالي نشر العدوى. وكان احتلال الدولة الألمانية الحديثة التطور لفرنسا أثناء الحرب بمثابة مظهر من مظاهر الظاهرة نفسها. لا يعني هذا أن فايل معارضة للوطنية القومية بحد ذاتها (والتي يمكن فهمها على أنها حب المرء لشعبه). بل إن معارضتها الشديدة موجهة إلى الدولة باعتبارها صنماً يطالب بالطاعة المطلقة.

إن رؤى سيمون فايل في العلاقة بين قوة الدولة الحديثة وظاهرة الحكم الاستبدادي لاذعة بشكل خاص:

“إن الدولة هي علاقة باردة لا تستطيع أن تلهم الحب، بل إنها تقتل وتقمع كل ما قد يكون محبوباً؛ لذا فإن المرء مجبر على حبها، لأنه لا يوجد شيء آخر […] ربما هنا يكمن السبب الحقيقي وراء ظاهرة الزعيم […]المغناطيس الشخصي لكل الولاءات. إن إجبار الناس على عناق السطح المعدني البارد للدولة جعلهم على النقيض من ذلك تواقين إلى شيء يحبونه مصنوع من لحم ودم.”

إن مثل هذا التفسير لتفشي الشخصيات الاستبدادية في ثلاثينيات القرن العشرين يحمل مقارنة مثيرة للاهتمام مع عصرنا. من المدهش أن نتوقع قوة وسائل الإعلام في “صناعة النجوم من أي نوع من المواد البشرية”، ومنح “أي نوع من الأشخاص الفرصة لتقديم نفسه لتقدسه الجماهير”.
وإذا كانت سيمون فايل فكرت في وصف ليني ريفنشتال لهتلر فإن الأمثلة المعاصرة لقادة أقوياء (مثل ترامب، وبولسونارو، وبوتن) الذين يستخدمون وسائل الإعلام لإثارة الإعجاب الشعبي الذي يمكن استخدامه كسلاح ضد المؤسسات المدنية. اما فكرة “أعداء الشعب” فتأتي بسهولة إلى ذهن جمهورهم.
وفي هذا الجانب، وفي جوانب أخرى كثيرة، فإن تحليل سيمون فايل لمخاطر الاقتلاع لا تزال تحتفظ بتأثيرها في سياقنا الخاص. وعلى الرغم من أن أعمالها لم تُقرأ إلا نادراً خلال حياتها فإن تأثيرها (الذي نما بقوة في العقد الذي تلا وفاتها) لا يزال عميقاً في الفكر الاجتماعي والسياسي، ولكن أيضاً في الدراسات الدينية. فكتابتها الحكيمة والعاطفية تستحق إعادة القراءة والتأمل المتكرر.