كيف حاول سيغموند فرويد حل “لغز” عبقرية ليوناردو دافنشي

 

 

لوك ثورستون

ترجمة: حسين طالب

إن الفكرة القائلة بأن البراعة في أنشطة مثل لعب الشطرنج أو كتابة الشعر قد تكون “مدفوعة” برغبة جنسية لا واعية ومحبطة هي فكرة معروفة إلى حد ما اليوم.

ولكن منذ أكثر من قرن من الزمان، كان سيغموند فرويد يعتبر رادكالياً في تفسيره لكيفية تحويل الدوافع الجنسية إلى قوى إبداعية أو فكرية ــ وهي العملية التي أطلق عليها “التسامي”.

في عام 1915، كتبت المحللة النفسية أليكس ستراتشي، لشرح نظرية فرويد، أن “الإنسان في عملية التسامي يتعامل مع دوافعه القاتلة ليس بالتحول إلى مسالم، بل بالتحول إلى محامٍ جنائي، أو مراسل حربي، أو صحفي جرائم، أو كاتب كتب عن الدم والرعد”.

ولعل من غير المستغرب أن يرى فرويد نفسه أن جذور الحضارة جنسية، نظراً للأهمية التي يحظى بها الجنس في وصفه للعقل. ولكن ما يثير الدهشة حقاً هو مقدار المتاعب التي سببتها فكرة التسامي لفرويد. هذا العناء هو الذي أثار اهتمامي بهذه الفكرة المهملة. لقد أمضيت عاماً في استكشاف الفكرة، حتى وصلت ذروتها في كتابي الجديد “فهم التسامي”. لقد اكتشفت أن نظرية فرويد في التسامي تدور حول الألغاز ومحاولة حلها.وهذا يتضح جلياً في المناقشة الرئيسة التي أجراها فرويد حول هذه الفكرة ــ مقال كتبه في عام 1910 عن أحد أعظم ألغاز تاريخ الفن، ليوناردو دافنشي.

كان فرويد يريد أن يعرف كيف جمع عالم عصر النهضة الموسوعي بين الإنجازات الفنية العظيمة والخيال التكنولوجي الذي يبدو أنه سبق العلوم والهندسة الحديثة. ويتساءل فرويد: لماذا ترك دافنشي العديد من لوحاته غير مكتملة، ولماذا لا تزال أشهر أعماله تعد غامضة وغريبة إلى هذا الحد؟

لقد امتزج هوس فرويد بدافينشي باهتماماته الأوسع كيف يمكن للذاكرة اللاواعية لعلاقات الطفل الأولى مع الآخرين (التي كانت دائماً في نظر فرويد مرتبطة بالجنس) ان تنشط أو تعيق الإبداع في وقت لاحق من الحياة.

ولأن دافنشي ترك ملاحظات مفصلة عن حياته العذرية المنضبطة ذاتياً، فقد شعر فرويد بأن افتراضاته مبررة: فها هو شخص تحول شكل حياته الجنسية إلى أنشطة فكرية وإبداعية. اعتقد فرويد أن هذا قد يكون السبب وراء امتلاك دافنشي لهذه القوى المعرفية والفنية الاستثنائية، وكون أعماله غريبة جداً ومن الصعب فك شفرتها.

ان الأمر الأكثر إثارة للدهشة الذي وجده فرويد في دافنشي هو الجمع بين حل المشكلات العلمية والإنتاج الفني، وخاصة لأنه كان يعتقد أن هناك صراعاً أساسياً بين هذه الأنشطة. وكثيراً ما يكشف عمل فرويد مع مرضاه عن هذه الأنواع من الصراعات أو التوترات العقلية كما أن عملية التحليل النفسي الطويلة التي يجريها ترجع هذه الصراعات أو التوترات إلى التعقيد في حياة الشخص في وقت مبكر من حياته.

في حالة دافنشي، يبدأ فرويد من اللحظة التي أُعيق فيها الفنان من إكمال أحد مشاريعه الرئيسة -رسم معركة أنغياري Battle of Anghiari في مبنى عام في فلورنسا -بسبب تجربة تقنية فاشلة.كتب فرويد: “يبدو الأمر هنا كما لو أن اهتماماً غريباً -بالتجريب -عزز الاهتمام الفني في البداية، فقط ليضر بالعمل لاحقاً”.

إن هذا التأكيد على الدوافع المتضاربة يشكل محوراً أساسياً في محاولة فرويد لحل لغز دافنشي. إن ما يهم هنا هو عبارة “اهتماماً غريباً”. تخيل فرويد صراع دافنشي بين الرسم والتجريب على أنه تعايش غير مضطرب بين الذات والغازي المجهول المخرب. وما يعنيه بهذا هو أنه في حين تعتقد الأنا أنها سيدة بيتها، فإن النفس تتضمن أيضاً رغبات تتجاوز الهوية الشخصية، والتي يبدو أنها تأتي من مكان آخر.

عندما يتعلق الأمر باللوحات الشهيرة التي حيرت نقاد الفن لعدة قرون، يرى فرويد أن دافنشي مرة أخرى يضفي طابعاً دراماتيكياً على هذا الأنقسام بين الذات الإبداعية وبعض الدوافع الغامضة غير المعروفة. تشكل ابتسامة الموناليزا الغامضة، كما يكتب: “التناقض بين التحفظ والإغراء، وبين الحنان الأكثر تفانيا والشهوانية التي تتطلب بلا رحمة -التهام الرجال”.

يرى فرويد أن ازدواجية تصوير دافنشي للنساء (كعذارى وعاهرات في نفس الوقت) مرتبطة بشكل غير واعٍ بعلاقة الأم بالطفل في مرحلة الرعاية المبكرة والرضاعة الطبيعية. ويعتقد فرويد أن تسامي هذه العلاقة الجنسية البدائية إلى فن يجعل اللوحات مبهمة، وحتى خارقة (فقد ظل العديد من مؤرخي الفن تؤرقهم لوحات دافنشي). وما يثير الدهشة حقاً هو أن جمال اللوحة ورقتها يخلقان شيئاً آخراً وهو عنصر “مجهول” يوحي بالعاطفة الجنسية، بل وحتى الرغبة المدمرة. ووفقاً لفرويد ثمة غموضاً جذرياً يكمن في الجذور العميقة للنفس البشرية: فإذا كانت حياتنا المبكرة مليئة بالرعاية المحبة فإنها أيضاً مليئة بالرغبة الغامضة.

إن إجابة فرويد على لغز دافنشي لم تكن إذن عبارة عن مفتاح شبيه بمفتاح دان براون لشفرة رمزية غامضة تعود إلى عصر النهضة انما كانت عبارة عن تكهنات جامحة إما مستوحاة أو وهمية رأت في أعماله، بما تتسم به من إبداع باهر، غموضاً غريباً يهدد إمكانية التعبير الفني المتماسك.

إن هذا التحدي الغامض للتفسير هو الذي يجعل فكرة التسامي الفرويدية أكثر من مجرد شعور عادي بالجنس باعتباره “طاقة” مفيدة لأنشطة أخرى. بالنسبة لفرويد فإن ما يظهره لنا دافنشي في لغز لوحاته له أهمية عالمية على وجه التحديد لأنه يتجاوز المعنى الواحد المغلق، وبالتالي يضعنا امام عدم اكتمالنا الأساسي.