أكانكشا فيركار
ترجمة: حسين طالب
تتخذ الحرية في موسيقى بيتهوفن أشكالاً عديدة ومتداخلة في كثير من الأحيان. فهناك الحرية البطولية في “إيرويكا” (1803) والحرية من القمع السياسي في “افتتاحية إجمونت” (1810) والحرية الفنية والإبداعية في السيمفونية التاسعة (1824).
لا تزال موسيقى بيتهوفن اليوم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالإنسانية الحقيقية، التي تحمل في قلبها مبادئ الحرية وتقرير المصير.
نشأت موسيقى الملحن في عصر التنوير الأوروبي، الذي وضع العقل البشري والذات في مركز المعرفة. وقد فهم الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط التنوير بأنه القدرة على استخدام فهم المرء دون توجيه من شخص آخر. إن التنوير يتحقق عندما نتمتع بالحرية في الاعتماد على قدراتنا الفكرية لتحديد كيفية العيش. وإن التشريع الذاتي المبني على العقل هو بالنسبة إلى كانط مكافئ لمبدأ الإرادة الحرة.
كان هيغل معاصراً لكانط، وكان أيضاً فيلسوفاً للحرية والاستقلال والعقل والإرادة. لقد فهم هيغل، مثل كانط، الفرد الحر إنه الشخص الذي يتخذ خياراته بوعي من خلال فعل الإرادة التي يحكمها العقل. ويضيف هيغل بعداً آخر للحرية الإجتماعية التي يعتبرها تحقيقاً للإرادة الحرة. وفي كتابه “فينومينولوجيا الروح” (1807)، يصف هيغل الحرية بأنها “المصير الأعلى للروح الإنسانية”.
الموسيقى كإرادة حرة
قدم الفكر الألماني في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في استكشافه لحرية الروح البشرية والعقل والإرادة السياق الفكري الذي ألف فيه بيتهوفن موسيقاه. وقد استوعب بيتهوفن هذه الروح، فكتب في رسالة عام 1819:
“إن الحرية والتقدم هما هدفنا الحقيقي في عالم الفن، كما هو الحال في الإبداع العظيم على نطاق واسع.”
ولفهم كيف تنقل أصوات موسيقى بيتهوفن فلسفة الحرية هذه، ينبغي علينا أن نتأمل العملية الغريبة التي أصبحت من خلالها موسيقى بيتهوفن مسموعة باعتبارها حركة الإرادة نفسها.
وبالنسبة للفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، كانت سيمفونيات بيتهوفن تمثيلاً مباشراً للإرادة، “صورة حقيقية وكاملة لطبيعة العالم الذي يتدفق في … أشكال لا حصر لها”.
ان إرادة شوبنهاور تعتمد على فهم أرسطو للروح أو العقل باعتباره المبدأ المحفز أو المحرك. وكما يوضح عالم الموسيقى دانييل تشوا فإن فكرة أرسطو عن الإرادة باعتبارها حركة ذاتية تشكل مفتاح الفكر الموسيقي في القرن التاسع عشر.
لقد كان يُنظَر إلى الحرية والإرادة باعتبارهما حركة ـ ولم تكن هناك أي موسيقى قادرة على استحضار هذه الحقيقة أفضل من موسيقى بيتهوفن. ومن خلال حركتها الدرامية، أظهرت سيمفونيات بيتهوفن على وجه الخصوص الإرادة وهي تمارس حريتها وتكشف عن مصيرها.
وعلى خطى شوبنهاور، تأمل المؤلف الموسيقي فاغنر في موسيقى بيتهوفن باعتبارها تعبر عن الإرادة في مقالته التي كتبها بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد بيتهوفن. وبدلًا من ذلك، اتجه فاغنر إلى رباعيات بيتهوفن المتأخرة، فأشاد برباعية بيتهوفن دو شارب الصغرى (العمل رقم 131) باعتبارها “رقصة العالم بأسره”.
وفي كتابه “مولد التراجيديا” (1872)، يرى نيتشه أن موسيقى بيتهوفن تعبر عن الإرادة.
ومن غير المستغرب أن المؤلف الموسيقي الذي يستطيع أن يجسد جوهر الحرية الإنسانية في الصوت سوف يصبح هو نفسه في صورة أسطورية ترمز الى التحرر. وخلال حياته وبعدها، كان بيتهوفن يُعَد شخصية بروميثيوسية ـ مبتكراً مبدعاً متمرداً، حرر الموسيقى من التقاليد.
ويصف فاغنر بيتهوفن بأنه كولومبوس، الذي استكشف بحر الموسيقى وقام باكتشافات جديدة في السيمفونية التاسعة. وبحلول القرن العشرين، أصبح بيتهوفن معروفاً باسم “الرجل الذي حرر الموسيقى” كما ورد في عنوان دراسة عام 1929 أجراها كاتب السيرة الذاتية والموسيقي الأمريكي روبرت شوفلر.
الحرية كفرح
بطبيعة الحال، لا يوجد مكان آخر يظهر فيه إرث بيتهوفن في الحرية الفنية بشكل أكثر وضوحاً أو تذكراً من مقدمته لـ “نشيد الفرح” في السيمفونية التاسعة، والتي تمثل أول ظهور للموسيقى الكورالية في سيمفونية. بالنسبة للبعض، فإن الإعداد الموسيقي لبيتهوفن لقصيدة فريدريش شيلر يوحي بفرح بريء تقريباً في الوحدة البشرية والأخوة.
كما تحتفل جوقة السيمفونية بلقاء العالم بخالقه، الذي “يقطن بالتأكيد بين النجوم”. غالباً ما ترتبط هذه الصورة بمدونة بيتهوفن في فبراير 1820 في دفاتر ملاحظاته:
القانون الأخلاقي في داخلنا وفوق رؤوسنا السماء المرصعة بالنجوم. كانط!!!
وبعبارة أخرى، تقترح قصيدة شيللر على بيتهوفن صورة للإرادة باعتبارها إنسانية ومتعالية. والفرح هنا هو إدراك للأخلاق باعتبارها حرية.
تظل حرية الإرادة في صميم موسيقى بيتهوفن. وبعد مرور اكثر من قرنين ونصف على ميلاد بيتهوفن، لا تزال موسيقاه تقدم لمستمعيه الحرية التي يختبرونها أو يتردد صداها في صميم أنفسهم. إن موسيقى بيتهوفن هي صوت الحرية الإنسانية في جوهرها -حرية عقولنا أو أرواحنا أو وعينا.